الأهرام
د. هالة مصطفى
حمقى وأغبياء!
الفترة الانتقالية التى نشهد وقائعها الآن مابين انتهاء ولاية أوباما وتنصيب ترامب، هى الأكثر توترا وسخونة فى تاريخ الولايات المتحدة، فالخلافات بين الرئيسين «المُغادر» و«المُنتظر» تبدو فاقدة أى أرضية مشتركة، تمتد من قضايا الداخل إلى الخارج، أى فى كل شيء، خلافات باتت أقرب إلى حرب مفتوحة بينهما، ما قد يُنبىء بعصر جديد فى السياسة الأمريكية يُمهد له الرئيس المُنتخب الذى سيتولى مهام منصبه رسميا فى الـ20 من يناير الحالى.

ففى سابقة، تُعد الأولى من نوعها، شن ترامب هجوما عنيفا على موقف الإدارة الحالية من قرار مجلس الأمن الذى صدر فى ديسمبر الماضي والقاضي بوقف الأنشطة الاستيطانية الإسرائيلية فى الأراضي المحتلة، والذى لم تستخدم أمريكا ضده حق «الفيتو» فى خطوة نادرة ماسمح بتمريره، بل وقام بإجراء اتصالات مباشرة بالرئيس المصرى عبد الفتاح السيسى ورئيس وزراء إسرائيل بنيامين نيتانياهو، راجيا انتظار إدارته المقبلة التى ــ حسبما قال ــ سترعى استئناف مفاوضات السلام، موجها بذلك ضربة علنية للإدارة الحالية، والواقع أن موقف الكونجرس جاء أخيرا مؤيدا له، إذ أقر مجلس النواب منذ أيام مشروع قانون بأغلبية كبيرة يهدد بسحب التمويل الأمريكي من الأمم المتحدة والذى يقدر بـ22% من ميزانيتها السنوية وإصدار تشريعات لحماية المستوطنين الذين يحملون الجنسية الأمريكية على خلفية القرار المشار إليه.

وتوالت المواقف نفسها، فرفض ترامب ومعه فريقه المعاون، الإجراءات التى اتخذتها إدارة أوباما لفرض عقوبات على روسيا وطرد 35 من دبلوماسييها، بعد اتهامها بالقرصنة الإلكترونية والتدخل فى الانتخابات الأمريكية، معلنا عن نيته نقضها بعد دخوله البيت الأبيض، ومرة أخرى يلقى تأييدا من مجلس النواب الذى نفى رئيسه عن موسكو هذا الاتهام، وفى السياق نفسه طالب جميع السفراء الذين عينهم سلفه بمغادرة مناصبهم بحلول يوم تسلمه السلطة دون فترة سماح كانت فى السابق تمتد إلى أسابيع أو شهور، ولم يكن على المستوى الداخلى أقل حدة فى خصومته السياسية فقد أعلن مبكرا عزمه إلغاء نظام التأمين الصحى المعروف بـ «أوباما كير» والذى يعتبره الأخير من أهم إنجازاته، وجميع هذه الأمثلة تؤكد أنه كـ «رئيس» لن يكون مختلفا عما كان عليه كـ «مُرشح» وأنه لا يُمثل تيارا معزولا كما تم تصوير الأمر فى البداية.

بالطبع ما يهمنا فى هذا المقام هو سياسته الخارجية وتحديدا فى الشرق الأوسط، والتى أصبح من الممكن تبين بعض ملامحها أو خطوطها العريضة.

ستظل نزعته اليمينية المحافظة ضد الأقليات والمهاجرين عموما والمسلمين خصوصا، الذين تأتى من بين صفوفهم الجماعات المتطرفة والعنيفة، هى أهم ما سيميزها وعنوانها «محاربة الإرهاب» المُوجه ضد الحضارة الغربية وقيمها ومكونها المسيحى الذى يعتبر ركنا أصيلا فيها، ولن يُفرق بين ما يوصف منها بالاعتدال أو التشدد، فهذه التصنيفات التى اعتمدتها معظم الإدارات السابقة قد انتهت، وأن هذه الحرب لاتقتصر على المواجهة العسكرية والأمنية وإنما ستشمل بالضرورة النواحى الفكرية والأيديولوجية، ومن المؤكد أن ينعكس هذا الموقف على سياساته الداخلية والخارجية معا (كمزيد من التشريعات أو القيود على هذه الفئات ومن يدعمها ماليا أو تنظيميا) ولكن الأهم أن هذا التوجه سيزيد من تقاربه مع الرئيس الروسى بوتين، الذى يشاركه بلا مواربة أو تردد نفس التوجه معتبرا الظاهرة الإسلامية هى الخطر الأول على حضارتهما المشتركة أى الغربية، وهى نقطة التقاء محورية بينهما لا يمكن التغافل عنها.

فى المقابل، فلا يُتوقع أن يتعامل ترامب مع الدول الاقليمية (عربية أو غير عربية) كتكتلات أو أحلاف ومحاور ثابتة وإنما الأرجح أن يكون تعامله معها منفردا، أى كل دولة على حدة، وفقا لما يمكن أن يخدم سياساته، ووفقا أيضا لمدى فاعلية دورها ووجودها على الأرض فى الأزمات والملفات المفتوحة من سوريا والعراق إلى ليبيا واليمن، باختصار بحسب ما تمتلكه من أوراق تعطى لها وزنا إقليميا. فمادام سيعيد بناء علاقاته من جديد إذن لن تكون هناك أنماط جاهزة تُصنف من خلالها الدول كصديقة أو حليفة أو معادية.

لا شك أن هناك دلائل عدة على هذه الفرضية، منها أنه هاجم الاتفاق النووى لبلاده مع إيران والمحسوب على أوباما فى الوقت الذى لم يعارض الإبقاء على نظام بشار الأسد فى سوريا (اتفاقا مع النظرة الروسية) درءا للبديل الأسوأ الذى ستمثله الجماعات الإسلامية المتطرفة، رغم أن انتصار بشار هو نصر لحليفه الإيراني ومعه حزب الله والعشرات من الميليشيات الشيعية المسلحة، التى لم يسع بدوره لإدراجها ضمن قوائم «الإرهاب» أسوة بالتنظيمات السنية التى يراها منبع الفكر المتطرف (لعلها النقطة الوحيدة التى لا يختلف فيها مع أوباما) لذلك، فإن موقفه السلبى من إيران لم يصب فى صالح السعودية، أهم القوى الإقليمية السنية المناوئة لها، بل لم يتطرق إلى قانون «جاستا» الذى تعتبره المملكة استهدافا مباشرا لها، بل يُتوقع تفعيله فى فترته الرئاسية، كذلك انقلب على إستراتيجية تسليح القوى المحلية السنية التى أقرتها الإدارات الأمريكية السابقة، وكانت فى الأصل مبادرة سعودية للحد من التمدد الشيعى لإيران طُرحت ونُفذت عقب الغزو الأمريكى للعراق، وهو موقف ينسحب على موقفه من الحرب الدائرة فى اليمن التى تُجسد جانبا مهما من الصراع بين هاتين القوتين الإقليميتين. من هنا لم يمانع الاختيار الروسى من أن تُصبح تركيا وليس السعودية الممثل الرئيسي للسنة فى المنطقة.

فى ظل هذه التعقيدات لن يكون هناك أفضل لترامب من بوتين للتعامل مع الشرق الأوسط والشراكة معه، بل والاعتماد عليه لتُصبح روسيا هى «مفتاح» الفترة القادمة، وليس أدل على ذلك من تصريحه الصادم ضد كل من عارض علاقته الجيدة بروسيا، بأنهم «حمقى وأغبياء».
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف