الأهرام
محمد الرميحى
أشكال الإرهاب وتجلياته !!
وكأن العالم فوجئ بمذبحة اسطنبول بعد دقائق من دخول السنة الجديدة، فصدم لهول الحدث ، قبله كان تفجير الكنيسة فى القاهرة لمصلين ابريا ،وقبل ذلك وبعده سلسلة طويلة من التفجيرات طالت تقرببا كل عواصم أوروبا ، معظم الضحايا من الأبرياء وهى تطال بلادنا العربية من الكويت الى طنجة فى أماكن الفرح وأماكن العبادة فى البر أو الجو، انها ظاهرة تتدافع الأقلام من أجل محاولة تفسيرها، إلا أن الموقف العربى الرسمى العام لا يريد أن يعترف بأنها ظاهرة تستحق أكثر من الشجب والادانة أو التسفيه، هى تستحق الدارسة الموسعة والفهم الصحيح لها.. بعض السياسيين يريدون أن يلصقوا الظاهرة كلها بالإسلام ، وليس كل الإسلام ولكن الإسلام العربى والسنى بالذات ، ويذهب بعضنا لاكمال المعزوفة اما عن جهل او تشبها بالآخرين ليؤكد ذلك! أو يدفعه موقف خفى من الإسلام ذاته للمساهمة فى التصفيق! قرأت مؤخرا فى مجلة مخترمة ناطقة بالإنجليزية عن الموضوع وهى مجلة (ستاند بوينت) عدد شهرى ديسمبر/ يناير ، فإذا بالكاتب يقول انه بالمصادفة كان فى القدس عندما تم انتخاب دونلد ترامب رئيسا ، و: أردت أن (افهم الظاهرة) فذهبت الى حائط المبكى فوجدت انه يسمح لكل الناس من ديانات مختلفة الوقوف هناك، ولما ذهبت إلى الحرم القدسي(عند المسلمين) عرفت أن دخوله للمسلمين فقط، وقليل من الآخرين تحت ظروف معينة يسمح لهم بالدخول! يقول الكاتب ليس دونالد ترامب هو الذى اخترع فكرة العزل وقرر التوجه إلى منع المسلمين من دخول أمريكا، المسلمون أنفسهم اخترعوا فكرة العزل منذ قرون عندما قسموا العالم إلى (دار حرب) و (دار الإسلام) يكمل الكتاب بلهجة لا تخلو من التهكم أن دونالد ترامب أراد فقط أن يعاملهم بالمثل! ذلك غيض من فيض مما يكتب وفيه الكثير من الخلط والتزييف والتبسيط والتعميم ، بل المفارقة للعلمية والعلانية ، حيث يقيس ما حدث من صراع قبل قرون على واقع متغير اليوم ، ولكن مثل تلك الافكار تجد لها من يصدقها.

لفهم الظاهرة. ان المسلمين السنة هم الاكثرية فى مجتمعات كثيرة وكبيرة من إندونيسيا الى المغرب ، وهم بذلك يعدوا بالبلايين من البشر ، والظاهرة تعنى قليلا منهم لا جميعهم، ذلك من جهة، ومن جهة أخرى أن (الإرهاب) ليس صناعة سنية أو شرق أوسطية فقط، حيث مورس من قبل الاستعمار الغربى فى العديد من الدول والمجتمعات التى أخضعها بالقوة.

الإرهاب الحديث فى الشرق الاوسط جاء من اعمال العصابات الصهيونية فى السنوات الوسطى من القرن العشرين، حين بدات بإرهاب الفلاحين البسطاء فى فلسطين وانتهاك حرماتهم، كما ان الظاهرة ضربت فى جنوب الهند لسنوات طويلة عندما نشب نزاع بين الطوائف فى سيريلانكا ، الى درجة أن الانتحاريين التاميل وصلوا الى قتل رئسية وزراء الهند السيدة أنديرا غاندي، ومعروف أن أكبر عدد من الانتحاريين حتى اليوم كانو من طائفة التاميل.

لم أكتب كل ما تقدم لادين أحدا أو أبرئ أحدا، كتبته للإشارة إلى أن الإرهاب ظاهرة معقدة تحتاج إلى دراسة ووضع حلول اقتصادية واجتماعية وسياسية وثقافية وليس فقط التعامل مع الظاهرة تعامل أمني، لا ادعى أيضا أن الامنى غير مطلوب ، ولكن أقول إنه جزء من الحل وليس كل الحل.

الإرهاب ليس واحدا، له تجليات مختلفة فى عالمنا اليوم ،فى بعضه محلى (كالصومال مثلا) وفى بعضه عابر للأوطان ،فى اسطنبول مثلا نجد ان هناك العديد من العوامل المشتركة التى أوصلت الى ذلك الطريق، اى هناك توتر مجتمعى كبير ، خاصة بعد المحاولة الانقلابية التى اتهم فيها جماعة فتح الله جولن، وهو اتهام لم يظهر بيناته على الملأ بعد ، ومنها الموقف تجاه الاكراد الاتراك، وهو ملف صعب وطويل وشائك ،ومنها ملف ما يراه البعض من محاولة تغويض الديمقراطية التركية بجمع كل السلطة السياسية فى يد رجل واحد ،ومنها أيضا ما يحدث فى الجارتين العراق وسوريا والديناميات التى أطلقت نتيجة التداخل بين المنطقتين. إذن الملف هنا متضخم وكبير. فى دول اخرى نجد أن مدخلات ملف الإرهاب مختلفة جزئيا أو كليا، فبلاد عربية تعانى من الإرهاب، لان فصيلا سياسيا يرى انه اصبح خارج اللعبة، وأن ما يراه من طريق للنهوض، لا يراه الآخرون ويعتمد فى ترويج ذلك على أفكار غيبية وتراثية لم يعد لها مكان فى عصرنا الحالى من هنا تتلون الاسباب المختلفة للإرهاب فى بلاد المشرق وتفيض أيضا الى بلدان فى أوروبا، لان بعضنا لا يزال ينكر على العقول أن تتعامل مع الظاهرة تعاملا علميا له منهج وأدوات تحليل لابد من استخدامها لتشريح الظاهرة ومعرفة مكامن قوى الدفع فيها (وهى قوى ليست متشابهة) وأيضا مكامن وطرق حلها والقضاء عليها (وهى أيضا غير متشابهة) . لقد تم انهاء الظاهرة مثلا فى سيريلانكا، صحيح بعد جهد، وتركت ندوبا لا تمحى فى وجه المجتمع السيريلانكى حتى اليوم ولكنها حُلت بنجاح كبير . والظاهرة التى تضرب الغرب اليوم من الموجة الإرهابية فيها عوامل دفع، اى ما يحدث فى سوريا والعراق، وتاريح من تراكم التسلط ، وفيها عوامل جذب، اى الموقف الأوروبى الذى يعمم الظاهرة ويشيع الإسلاموفوبيا كفزاعة يستخدمها اليمين الاوربى كوسيلة للوصول الى الحكم . جزء من عناصر الإرهاب كانت صنيعة الانظمة الشمولية التى تبنت فى اطروحاتها أفكار الفاشية والنازية، اى أن تلك الانظمة قامت منذ البداية على تلك الافكار التهميشية وزرعتها فى العقول، ثم الحقتها بقمع منقطع النظير بشعوبها، مما ولد ردة فعل انتُهزت بضرارة لتوليد الإرهاب الذى نعيش فيه، وجزء من الظاهرة التثقيف المُجهل للناس من خلال افراد تصدوا للدين وهم لا يعرفون إلا قشوره ومُكنوا من العوام، حتى شاع الهوس..

لقد ان الاوان لدعوة مؤسسات بحثية وعلمية فاعلة فى فضائنا العربى ان تعيد الزيارة إلى هذه الظاهرة الخطيرة التى تاكل زهرة شبابنا وتعطل مسيرة اوطاننا ، من اجل تشريحها و معرفة اسبابها العميقة،و الفروقات فيما بين جماعاتها، و ترقية الحوار المدنى الايجابى بين المكونات المجتمعية المختلفة القابلة للحور ومشاركتهم فى حقائق العصر و حقائق الدولة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف