محمد صابرين
مصر واللعب الحقيقى فى المنطقة
يخطئ من يظن أن الكلام قد انتهي؟! وأن مشروع «الفوضى الخلاقة» قد أسدل الستار عليه، بل فى ظنى أن «اللعب الحققي» قد بدأ الآن، وبنظرة سريعة سوف نلاحظ مثلا أن بريطانيا تسرع الخطى باتجاه الخليج لكى تجدد «علاقات قديمة»، أو سعيا وراء ملء فراغ تراجع اهتمام النخبة الأمريكية بالمنطقة (والأغلب إعادة صياغة أمريكية لشكل العلاقة والتزاماتها)، كما أننا نشهد عودة سريعة الخطى من جانب بوتين لاستعادة «علاقات مصالح قديمة» فى سوريا، وغزل وعرض خدمات فى العراق وليبيا، وهنا لابد أن نتوقف عند الجدل الدائر فى واشنطن بشأن روسيا، وإصرار الرئيس المنتخب دونالد ترامب على أن بوتين شخصية مثيرة للإعجاب، ويمكن التعاون معه، ومن المفيد أن نتوقف أمام عراب السياسة الخارجية الأمريكية هنرى كيسنجر ورؤيته لموسكو، فقد حرص كيسنجر خلال السنوات الماضية على تأكيد أنه سيكون من الذكاء إيجاد سبل للعمل مع بوتين، وهذه الرؤية تنسجم بشكل كبير مع وجهة نظر ترامب بأن هناك صفقة يمكن التوصل إليها مع بوتين، ويكشف الكاتب الأمريكى إيلى ليك فى مقال نشرته وكالة «بلومبيرج» الأمريكية، عن أن كيسنجر أمضى العديد من الساعات فى تقديم المشورة لمستشار الأمن القومى المقبل مايكل فلين وفريقه، وأن الوزير الشهير يمكنه الوصول إلى ترامب على الهاتف متى شاء! وأحسب أن «تصورات جديدة» يجرى اختبارها، وأن «عملية مساومة كبري» تبدأ الآن، وأن دولا عنيدة تمكنت من الصمود والخروج بأقل الخسائر قد فرضت نفسها على المشهد، ومصر هى واحدة من أبرز الدول التى تمكنت من النجاة من إعصار الفوضى الخلاقة، وعملية هدم وإعادة بناء الدول فى منطقة الشرق الأوسط، والآن فإن القاهرة مطالبة بأن تلعب بأوراقها بمنتهى الحرص، لماذا؟ لأن المرحلة المقبلة الآن هى إعادة رسم «الأدوار» و «المصالح»،
وهنا فإن ذلك لا يعنى أن المسألة باتت أسهل بالنسبة للقاهرة، بل على العكس، فإنها ستكون أصعب، لأن الكثيرين يحاولون اجتذابها إلى معسكرهم بوصفها «الجائزة الكبري»، كما أن البعض الآخر من خارج الإقليم يتمنى تحييدها، وأن تظل مشغولة بذاتها، وبالإضافة إلى كل هؤلاء فإن «السماسرة الكبار» سواء فى واشنطن وموسكو وبكين، يرغبون فى الفوز بالتحالف مع مصر، ولكن «بشروط تصب لمصلحتهم»، وهنا فإن مصر يجب أن تستعد وبقوة بسياسة واقعية، وألا تبهر عينها «الكلمات الكبيرة ولا الأفكار العظيمة مع القليل من التفاصيل»، وأحسب أن ذلك هو مربط الفرس «التفاصيل ثم التفاصيل»، والأهم هو أن نحضر من هذه اللحظة قائمة بما نريده بالتفصيل، وألا نكتفى «بالعلاقات الأمنية» فقط، بل لابد من التركيز على البعد الاقتصادى والاستثمارات وأحسب أن المسألة مرهونة بالكثير من الأمور، لعل أبرزها هو أن ننتهز الفرصة التى تلوح الآن، وبالقطع أى فرصة فى المستقبل، والنقلة الثانية ترتبط بضرورة إقامة «شبكة علاقات واسعة وفريدة» مع القيادات السياسية الدولية، والحرص على عقد لقاءات منتظمة وكثيرة مع أهم الدول، وفى المقدمة مجموعة العشرين، وفى الصدارة رؤساء وقادة أمريكا وروسيا وألمانيا والصين وبريطانيا وفرنسا وإيطاليا والهند واليابان والبرازيل وكوريا الجنوبية.. إلخ.والنقطة الثالثة تتعلق بمعرفة «معظم النخب» معرفة وثيقة، وهنا فإن النخب التى نشير إليها هى النخب الاقتصادية، ونخب مراكز الأبحاث والنخب الإعلامية، بالإضافة إلى ضرورة اجتذاب وإقامة صلات مع «النخب الثقافية والفنية» أو «صناعة الترفيه» وبعيدا عن ذلك كله فإن «الملعب العربي» من أهم الساحات التى ينبغى أن نمنحها الكثير من الوقت والجهد، وأحسب أن القاهرة خلال سنوات طويلة ولاتزال كانت «مسكونة بالعلاقة الخاصة مع الخليج»، وبالتأكيد لا أحد يجادل بحيوية هذه العلاقة وأهميتها، إلا أن الأمر يحتاج إلى نظرة جديدة على علاقات القاهرة مع بقية العالم العربي، وهنا المنطق يدفعنا إلى «مزيد من الجهد» باتجاه «علاقات أكثر عمقا» مع العراق وليبيا والجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا وسوريا والأردن، وربما من المفيد أن نتوقف أمام دعوة سفير العراق بالقاهرة حبيب الصدر الذى يقول «إن مصر تفكر فى إعادة الإعمار فى سوريا، والعراق يدعوها للمشاركة فى إعادة الإعمار فى العراق» ويؤكد الرجل بوضوح «أن العمالة المصرية التى شهدناها بالملايين فى الثمانينيات يعملون فى بلدهم الثانى العراق، تجددت الرغبة اليوم فى فتح أبواب العراق لها مرة أخري»، وأحسب أن «علاقات واسعة مع العراق» هى عودة لعلاقات قديمة، وهنا يشير إلى 17 ألف عراقى يدرسون حاليا فى مصر، ويشير السفير إلى أنه فى غياب مصر فإن العلاقات التجارية ما بين العراق وتركيا وصلت إلى 16 مليار دولار، وأحسب أن القاهرة مدفوعة بالكثير من الاعتبارات إلى العودة إلى «مستوى العلاقات السابقة»، واستعادة موقعها فى العراق وسوريا والأردن وفلسطين والجزائر والمغرب، وأحسب أن القاهرة هى لكل العرب، وأنها حرصت دوما على أن تمد يدها للجميع فى العالم العربي، والآن أكثر من أى وقت مضي، لابد أن تكون القاهرة «نقطة لقاء» و «عامل تجميع» للقوى العربية. وهنا فى هذه النقطة فإن القاهرة مطالبة وبشدة بأن تعطى «دفعة قوية» للعلاقة مع الجزائر، وأن يتم تعميق العلاقة وبشدة فى مختلف المجالات، خاصة فى المجال الاقتصادى والسياحى والثقافى والتعليمي، نظرا لأن «أواصر قربي» كبيرة وكثيرة قد نمت ما بين الشعبين المصرى والجزائري، وأحسب أن «الأخوة فى الجزائر» لديهم «عشم كبير» فى أن تكون «علاقتهم مع القاهرة» بوضوح «استثنائية»، وأحسب أن الجزائر تستحق ذلك.
ويبقى أن عنوان المرحلة المقبلة سيكون «الحرب ضد الإرهاب»، ولقد كانت مصر ـ ولاتزال ـ من أوائل الدول التى نبهت إلى خطر الإرهاب، وخطورة التطرف، ليس فى المجتمعات العربية والإسلامية، بل على العالم بأسره . ووسط هذا كله، فإن داعش تتصدر المشهد، وها هو ولى ولى العهد السعودى محمد بن سلمان يقول لمجلة «فورين أفيرز» الأمريكية: «إنه لا يغفل انتشار داعش وتطرفها، ولا خطر القاعدة، وإنه يعتقد أن داعش يمكن أن يتم كبح جماحها فى سوريا، وتهزم بشكل كامل فى وجود دول قوية مثل مصر والأردن وتركيا والسعودية»، وأحسب أن القاهرة مستعدة، بل وتخوض بالفعل حربا حقيقية ضد الإرهاب والجماعات المرتبطة بداعش والقاعدة وأخواتها، ولكن المسألة تحتاج أيضا إلى مسألة مهمة ألا وهى «منع الحرب الطائفية» ما بين السنة والشيعة بكل الوسائل، وهنا الحقيقة تقتضى ضرورة «حصر الصراع مع طهران» فى الجانب «الجيوسياسي»، والعمل على احتواء إيران، وتقليص التهديد الإيراني، والإيضاح لها بأن «عدم التدخل فى الشئون الداخلية العربية» الشرط الأول لاستعادة العلاقات الطبيعية، كما أن الجانب العربى والخليجى تحديدا ـ عليه أن يحدد مجموعة من «المطالب المحددة»، وخطوات بناء الثقة مع طهران وأحسب أن العرب عليهم مساعدة القاهرة، وليس دفعها بعيدا عنهم، وتقويتها لأنها فى النهاية «رصيد قوة؟، وتعرف جيدا أنها لن تساوم على حساب الأخوة فى الخليج مهما بذلت طهران من جهود ووعود!