عرفت كريمة مختار عام 1979 من خلال تعاوننا معاً في البرنامج الإذاعي اليومي » بكره يبتدي النهارده »، إذ كون المخرج مدحت زكي فريق عمل للبرنامج يضم ثلاثة كتاب، هم : أحمد سويلم، عزت الجندي، وأنا. وثلاث فنانات متميزات، هن : كريمة مختار، سهير البابلي، وسهير المرشدي. استمر البرنامج خمسة أعوام، مما سمح لصداقتنا أن تنمو بشكل رائع. كانت كريمة مختار في هذا الوقت لاتزال في الأربعينيات، ورغم هذا كان الجميع ينادونها بـ » ماما كريمة ». ولم أر إجماعاً من الكل علي مناداة فنانة بلقب » ماما » سوي كريمة مختار وزوزو نبيل رحمة الله عليهما.
وحين اقتربت من هذه السيدة الرائعة اكتشفت مدي جمالها الداخلي، فقد زارتها في الاستديو ذات يوم المذيعة الكبيرة عواطف البدري، وعرفت أنهما شقيقتان، وبعد انصراف السيدة عواطف سألت كريمة مختار : كيف تكونان أختين وهي لقبها البدري وأنت لقبك مختار ؟ قالت دون غضاضة: كانت الأسرة ترفض عملي بالفن، لذلك تركت لقب الأسرة كي لا أضايق أحداً. وأذكر أنها ذات مرة همست لي بصدق : أنا أفكر في ترك التمثيل. شعرت بالذعر. قلت مستنكراً : نعم ؟ قالت : إن ابني الآن ضابط، وأنا أضطر بحكم الأدوار التي أمثلها أن ألبس ثياباً معينة، أو أكون في مواقف قد تسبب له حرجاً بين زملائه وجنوده. قلت : كل أدوارك محترمة. لكنها قالت بشيء من الألم : حين رأيت مشهد غرفة النوم بيني وبين عبد المنعم مدبولي في فيلم الحفيد أحسست أني قد أسبب الحرج لابني، ففكرت في هذا الأمر. قلت بحرارة : هذا فن، تمثيل، وهذا المشهد من أجمل ما مثلت. ولم يكن فيه ابتذال. قالت : هل تري ذلك بصدق ؟ قلت لها : ومن يقول لك غير هذا فهو غير صادق... فهل رأي أحد حب فنانة لولدها لهذه الدرجة ؟
قالت ذات يوم لي ولمدحت زكي : نريد أن نكون أسرة حقيقية، لماذا لا نخرج معاً في رحلات أسرية ؟ وتطوعت بأن أنظم رحلة لمكان ريفي في أحد أيام الجمع. وطلبت من صديقي المهندس فؤاد غنيم رئيس الوحدة المحلية لقرية أم خنان وقتئذ أن يستضيفنا في القرية، ويتفق مع أحد أصحاب الحقول لقضاء بعض الوقت في حقله، وأن يعد لنا غداءً ريفياً. ورحب الرجل، وبالفعل اصطحب كل منا ابنته وذهبنا نحن الثلاثة للقرية في الموعد المحدد. تركنا كريمة مختار في الحقل مع البنات وقت الصلاة وذهبنا للصلاة في مسجد قريب، وحين عدنا وجدنا القرية كلها في الحقل لتري كريمة مختار. حاولنا إقناع الأهالي بأن يتركوها تستمتع بزيارة قريتهم، لكن كلامنا ذهب مع الريح، وفي نهاية المطاف ركبنا سياراتنا وخرجنا من المكان بصعوبة شديدة. عدنا إلي مقر الوحدة المحلية، وأثناء انتظارنا للغداء قلت لها شاعراً بالأسف لأنها لم تستطع الاستمتاع بالجلوس في الهواء الطلق كما أرادت : معلش، الناس بتحبك. قالت بصدق : اللي ربنا يحبه يحبب فيه خلقه.
امتدت علاقتي بكريمة مختار لزوجتي، فقد أقامت معها علاقة جميلة، وكانتا تتحدثان تليفونياً محادثات نسائية طويلة دون أن أكون طرفاً بينهما. وتوطدت هذه العلاقة أكثر حين كنا نجهز ابنتنا للزواج، فكريمة مختار زوجت ابنتها قبلنا ولديها خبرة أكثر، ونحن لسنا من القاهرة ولا نعرف أحداً نسأله، لذلك كانت كريمة مختار هي المصدر الرئيسي لمعرفة ما تريد أن تعرفه : المحلات التي يمكن أن نشتري منها بضائع جيدة، والأشياء التي يجب أن نشتريها، والأعداد التي يجب أن نشتريها من كل صنف، وما هي الأشياء التي نشرك العريس في اختيارها والأشياء التي يجب أن نشتريها وحدنا. وكنت حين تحكي لي زوجتي عن هذه المكالمات أشعر شعوراً حقيقياً أن كريمة مختار خلقت لتكون أماً.
فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ
الفساد في مصر متميز. له سمات لانظير لها. وفي هذا المقال نحاول رصد أهم هذه السمات :
السمة الأولي : إنه فساد شامل، يضم الحكومة والشعب معاً، فالشعب المصري لكثرة ماعايش الفساد تبناه، وراح يدافع عنه، ويتصدي لمن يحاول تغييره. ومن لايصدق هذا فعليه أن يستعيد ماحدث في بورسعيد حين حاول المحافظ إلغاء الدروس الخصوصية وإغلاق مراكزها. لقد تصدي له الطلبة أنفسهم، وقفوا أمام المحافظة يحتجون علي التغيير، وتجمع الأهالي في مظاهرات ضد المحافظ، ليرجع عما قرره. اليس معني هذا باختصار أننا صرنا نتبني الفساد ؟ وأنه لم يعد ظاهرة حكومية فقط، بل صار ظاهرة شعبية أيضاً ؟ وأن مصر كلها شعباً وحكومة صارت تتبني الفساد ؟
ومن الأمثلة القريبة موضوع تجارة الأعضاء البشرية، هل كان التنظيم الذي تم ضبطه حكومياً ؟ لقد كان تنظيماً شعبيا تماماً، يؤكد أن الشعب مُصِرٌ علي ألا تحتكر الحكومة الفساد وحدها.
ومن الأمثلة الشهيرة أيضاً موضوع غش الثانوية العامة، فلدينا إلي جانب موظفي المطبعة والعاملين بالتربية والتعليم عشرات الآلاف من الطلاب، وعشرات الآلاف من أولياء الأمور.
السمة الثانية للفساد المصري أنه ليس عملاً فردياً، بل عمل جماعي، منظم. خذ مثلاً فضيحة القمح التي نسيها الجميع، كم جهة كانت تشترك فيها ؟
عمل جماعي، منظم، لو أردنا أن نقلده في عمل من الأعمال النافعة للدولة والناس فربما عجزنا.
السمة الثالثة : إن الفاسدين لهم من يدافع عنهم، ويشكك في كل الإجراءات التي تتخذ ضدهم. أو باستغلال ثغرات القانون التي تبيح للفاسد أن يكون » شاهد ملك » إذا أرشد عن زملائه الفاسدين. وهؤلاء المحامون لهم أعوانهم في الفضائيات ووسائل الإعلام، يستضيفونهم، ويتيحون لهم الفرصة والأخبار الصحفية للدفاع عن الفاسدين، والتشكيك في القائمين بضبطهم، والتشكيك في الإجراءات.
ياسادة، إن الله لايغير مابقوم حتي يغيروا ما بأنفسهم، وحياتنا لايمكن أن تنصلح طالما كان هذا الفساد الذي يلف حياتنا موجوداً. ولا فائدة من أي مقاومة حكومية للفساد مالم يعقد الشعب العزم علي الإصلاح. ويطيب لي هنا أن أذكر مسرحية الكاتب السويسري فريدريش دورينمات المسماة البطل في الزريبة، ففي هذه المسرحية نري بلداً تعيش علي تربية الأبقار تعاني من مشكلة الروث، فيجيء المسؤولون بالبطل الأسطوري هرقل ليحمل الروث ويلقيه بعيداً، لكنه كان كلما تخلص من جزء من الروث جاء الأهالي بأكثر منه، وبالتالي انتهت مهمته بالفشل، لأن الحل لايمكن أن يكون حكومياً ولا فردياً. فهل نستوعب هذا المغزي ؟