كثيرون يكتبون هذه الأيام عن الخطر الداهم الذي يحيط بمستقبل مهنة الصحافة التي كانت في يوم ما "صاحبة الجلالة".. يتحدثون عن خطر حقيقي يهدد الصحافة المطبوعة بتفريغها من خبراتها.. وهجرة الصحفيين منها.. وانعدام تأثيرها.. ومحاصرة أدائها.. وقلة الانتماء إليها كمهنة آمنة لأكل العيش لها حصانة خاصة ورسالة محترمة في المجتمع.. ناهيك عن محاصرة الصحف بالديون وخنقها اقتصادياً حتي تغلق أو يشتريها رجل أعمال يقتلها بالبطيء أو يحول اتجاهها.
وبحسب ما كتبه الأستاذ جميل مطر في الشروق تحت عنوان "انهم يقتلون الصحف" فإن أسلوب إغلاق الصحف ومنابر الرأي بالحبس أو بسحب الترخيص صار موضة قديمة في العالم المتحضر كله.. لكن الجديد الآن هو التلاعب بهذه الوسائل وإلهاؤها وشغلها طول الوقت بالبحث عن معلومة كاذبة أو التحقق من خبر وليس صناعة حدث أو تفجير قضية.
وقد كانت تجربة الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب أوضح التجارب في هذا الصدد.. فليس صحيحاً أن الرجل فاز في الانتخابات الرئاسية لأن الناخب الأمريكي قرر أن يغير.. ولكن الصحيح أن المرشح ترامب قرر أن يشغل الصحف الأمريكية بسلسلة من الأكاذيب.. فيجعلها طوال الوقت مضطرة لنقل الكذب أولا ثم التحقيق فيه.. وبذلك استطاع أن يخدع 365 صحيفة وقفت ضده مقابل 11 صحيفة فقط كانت معه.. إلي الدرجة التي جعلت إحدي هذه الصحف المناوئة له تخصص 18 صحفياً للتحقق من صحة ما يدلي به من معلومات.. بينما خصصت الجارديان البريطانية عموداً يومياً بعنوان "أكاذيب ترامب".
وتعكف الصحف الأمريكية الآن علي دراسة هذه التجربة بعد أن أفاقت من هول الصدمة لتعرف كيف نجح ترامب رغم الخداع.. واستطاع أن يشغلهم بتويتاته طوال الوقت.. لدرجة أنهم لم يكن لديهم الوقت لسؤاله عن مشروعاته الانتخابية وبرامجه ولا عن خططه وقراراته السياسية ولا رؤيته الاقتصادية.
وكانت تجربة ترامب دافعاً لتأسيس نظرية "ما بعد الحقيقة" التي تعني أن الحقيقة لم تعد كافية للوصول إلي المواطن "الناخب" والتأثير فيه.. وإنما لابد من خلق بيئة من الأكاذيب تتجاوز هذه الحقيقة للسيطرة الكاملة علي هذا المواطن.. وشغله بالبحث عن صدق ما نتحدث به إليه.. ثم إطلاق المزيد من الأكاذيب حتي ينسي ما كان من الأكاذيب القديمة وينشغل بالأكاذيب الجديدة.
وينقل توماس جورجيسيان في الأهرام عن نيوت جنجريتش أحد المقربين جداً من ترامب أن الرئيس المنتخب يجيد وببراعة فائقة طريقة "إطلاق الأرانب" لتشتيت الإنتباه وإلهاء الناس.. كلما واجهته الصحافة بقضايا شائكة يطلق ما يشتت الأنظار.. ويجعل وسائل الإعلام تنشغل وتتخبط بمطاردة "الأرنب" الذي أطلقه.
وحسب نظرية ترامب.. إذا أردت أن تتقي شر الصحيفة فلتشغلها بأمور غير صحفية كمطاردة التويتات.. أو إصدار قرارات وزارية مفاجئة ومربكة.. أو اشغل الصحفيين بتأمين لقمة العيش أو التهديد الدائم بالطرد إلي الشارع بعد المعاش.. فالصحافة في النهاية لم تعد مهنة آمنة يعتمد عليها المخلصون لها.. وهذا ما يفسر ظاهرة تحول الصحفيين إلي حرف أخري يكونون فيها أكثر امنا وثراء ونجومية.. وهي الظاهرة التي أسماها الزميل أنور عبداللطيف في الأهرام بعملية "تدوير الصحفيين" وضرب مثالاً لها بإبراهيم عيسي الذي باع صحيفة "الدستور" المقلقة للسلطة ثم تحول بعدها إلي مذيع واعظ وخبير اقتصادي ومثمن قضائي ومصلح اجتماعي ومحاضر للمشاهدين بالساعتين وروائي وسيناريست.
وحتي لميس الحديدي التي زأرت منذ سنوات في وجه الإخوان : "أنا ما بخافش" قالت الآن بعد وقف برنامج ابراهيم عيسي إنها خائفة وتعتزم العودة إلي البيت واحتراف التريكو وأشغال الإبرة وتقطيع السلطة و"بابا غنوج".
يقول عبداللطيف إن ألغاز القرارات الاقتصادية أو التموينية والأزمات الحياتية والفتاوي الدينية الغريبة التي تصدر بليل تبدو كما لو كان الهدف منها أن تجعل الناس يسهرون لمتابعة محاولات فك رموزها وغموضها بمكلمات وصرخات مذيعي "التوك شو" وولولاتهم.. لكن الأخطر منها هو التكلؤ في تنظيم الإعلام والصحافة وتعطيل إصدار قانون حق الحصول علي المعلومات.
في ظل هذا التشتت تبدو مهنة الصحافة محاصرة ومهددة بالإتهامات.. ويبدو الصحفيون كاليتامي علي موائد اللئام.. مدينين ومدانين.. وغير مرغوب فيهم.. إلا المنافقون أصحاب الطبلة والمزمار.