المساء
خيرية البشلاوى
رأي مختلف في "الرقابة"
كريستوف كيشلوفسكي "1941 ـ 1996" مخرج وكاتب سيناريو بولندي. اشتهر بأفلامه "ثلاثية الألوان" و"الحياة المزدوجة". لـ"فرونيك" وهو حسب تعريف الموسوعة "ويكيبديا" من أعظم المخرجين تأثيراً في العالم.
لهذا المخرج المهم. رأي في الرقابة علي الأفلام يختلف عن الرأي السائد الآن.. حيث يري أن السينما الأمريكية حققت عصرها الذهبي وأنتجت أعظم أفلامها في الفترة من الأربعينيات وحتي بداية الستينيات.. في عصر الرقابة. وفي ظل "قانون الإنتاج" "Production Code" وقانون "Hays Code" وقانون "العفة" الذي فرضته الكنيسة الكاثوليكية. "Legion Of Decenccy".
فبسبب الرقابة وقوانينها تواصل الكتاب ومديرو دور العرض "الموزعون" والمخرجون حتي يتجاوزوا الحدود الرقابية. ويجدوا طرائق تجعل المتفرج بدوره يتواصل ويفهم ما يرنو إليه صناع الأفلام. كانت الرقابة تضع العراقيل. وعلي صناع الأفلام الالتفاف حولها بمهارة وحرص من أن ينزلق علي الجليد. وكنا نرسل "الإشارات" ويستقبلها الجمهور. ويتفاعل معها. في حين لا يلتفت الرقباء ويصبح لا حول لهم ولا قوة. لأنهم غير قادرين علي الإمساك بهذه الإشارات أو إدانتها.
وقد خلق هذا رباطاً خاصاً بين الفيلم والجمهور. فقد كان الجمهور يفهم ما يلمح إليه المخرج. ويتجاوب بأفضل مما كنا نتوقع. لقد فهموا نوايانا. وتوحدوا معنا. وحققت الأفلام نجاحاً كبيراً "المواطن كين.. ذهب مع الريح.. وإلخ..".
لقد كنا صناع الأفلام ضد "النظام" وضد "الرقابة" وكان الجمهور معنا علي نفس الخط. ولهذا السبب فهم كل منا الآخر.
كيشلوفسكي. يري أنه بدلاً من الشكوي من الرقابة علينا أن نجد طريقة لاستخدامها. ولكن لمصلحتنا. فهي علي نحو أو آخر. تُقوي الإمكانيات الإبداعية للمخرج. وتدفعه للابتكار لتجاوز عقبات التعبير. فلم تكن "القبلة" هي القبلة. وإن كانت موجودة. ولا النظرة هي نفسها.
وكان علي صناع الفيلم الإمعان في خلق تعبير دقيق ومتكامل يضفي بعض الغموض علي الفيلم. ويدفع المتفرج إلي التقاط ما بين التفاصيل المرئية.. ومع غياب الرقابة صارت اللغة أكثر صراحة ومباشرة والصورة مكشوفة بكل دلالاتها.
قانون الإنتاج في عام 1934. أجبر ملاك الاستوديوهات علي تنقية إنتاجهم بما لا يخدش المعني والدلالة وكذلك قانون "العفة" الكاثوليكي.. وبالمثل أجبر الجمهور علي تعلم اللغة "المغطاة" والتي تحمل أكثر من معني. وأكثر من إشارة. فلم تكن "القبلة" مجرد قبلة مادية ملموسة. وإنما شحنة حسية لا يملك الرقيب أن يصطادها.
وفي السنوات التي خضعت للرقابة والتي عرفت بعصر هوليود الذهبي. خرجت الكوميديا الموسيقية والابتكارات الفنية في لغة الصورة. وافتتن الجمهور بروعة الاستعراضات. وبأروع ما جادت به براعة المخرجين الذين صنعوا مجد السينما الهوليودية. والنجوم الذين ألقوها حتي الآن. تتلألأ بالبريق والمجد الفني.
أفلام مثل "العربة" و"السيد سميث يذهب إلي واشنطن" و"الغناء تحت المطر" و"أضواء المدينة" و"شمال شمال غرب".... إلخ.
ويقال إن العصر الذهبي لهوليود انتهي مع الستينيات من القرن الماضي. انتهي مع رقابة "التصنيف" Rating أي منذ أن ترأس جاك فالانتي الجمعية الأمريكية للسينمائيين الأمريكيين. Mpaa والذي ألغي جميع القوانين الخاصة بالرقابة علي الأفلام.
إن حرية التعبير لا تقتلها الرقابة. لأن الحرية لا تعني انتهاك الحرمات وإسقاط الرهافة الفنية لحساب الفجاجة والوقاحة واغتيال العفة. والوجبات الترفيهية التي قدمها المخرجون المبدعون لا تتضمن بالضرورة أطباقاً جنسية صادمة. ولا قاتلة للقيم الأخلاقية.
وبالقياس مازال الجمهور المصري وباختلاف أجياله يستمتعون بأفلام الأبيض والأسود. ويضعون نجوم هذه الحقبة علي رأس قائمة النجوم الذين صنعوا تاريخ صناعة السينما في مصر.
ولو حاولنا أن نستعيد أمجاد هذه الصناعة الوطنية سنجد إجابة مقنعة علي كل الأسئلة المطروحة الآن والجدل الصاخب حول "الرقابة" فهذه الرقابة نفسها هي التي سمحت وتسمح بأسوأ وأردأ الأفلام وأكثرها "انحلالاً" وتدنياً فنياً وتحرراً فنياً وتحرراً من كل القيود.
والقيمة الإبداعية لا تعني الانفلات ولا تتطلب هذا الصراخ العاجز من أجل التحلل من الرقابة.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف