المصريون
جمال سلطان
الدلالات السياسية الخطيرة لحكم تيران وصنافير
يمكن القول بأنه زلزال سياسي حدث في مصر اليوم ، بصدور حكم المحكمة الإدارية العليا برفض طعن الحكومة المصرية على حكم القضاء الإداري الخاص بجزيرتي تيران وصنافير ، وتأكيد المحكمة بشكل نهائي وحاسم على أنهما جزيرتان مصريتان ، وأبطلت بالضرورة اتفاقية تيران وصنافير التي وقعتها الحكومة مع الجانب السعودي والتي تقضي بتنازل مصر عن الجزيرتين للمملكة العربية السعودية ، وقالت المحكمة في حيثيات حكمها : (إن ما وقع تحت بصر المحكمة من مستندات وبراهين وأدلة وخرائط تنطق بإفصاح جهير بوقوعهما ضمن الإقليم المصري) ، هذا حكم تاريخي بالغ الخطورة ، لأن أبعاده السياسية تتجاوز قضية الجزيرتين وتحديد ملكيتهما إلى أبعاد أكثر خطورة تتعلق بالمشروعية السياسية للحكومة والسلطة القائمة . وحتى يتبلور المشهد مبكرا وندرك أبعاد تلك الخطورة ، لنا أن نلخص المشهد الذي رسمته الأحداث انتهاء بحكم المحكمة في صورة أن رئيس الجمهورية والحكومة قرروا التنازل عن جزء من أرض الوطن لصالح دولة أخرى ، وأن الشعب المصري والقضاء المصري أوقف هذا الأمر ومنعهم من التفريط في أرض مصر ، تلك هي الصورة التي يراها الناس الآن ببساطة شديدة ، وهذا هو مكمن الخطورة ، وأعتقد أنه سيكون على الرئيس عبد الفتاح السيسي أن يجري مراجعة شاملة لما حدث لأنه يمس شرعيته الدستورية ، كما أن الحكومة التي وقع رئيسها على هذه الوثيقة أصبحت ملزمة بتقديم استقالتها لأنها ـ بحكم المحكمة النهائي ـ لم تعد أمينة على الوطن وترابه ووحدة أراضيه ، لقد كان مؤلما أشد الإيلام ـ إن كان لديهم شيء من الإحساس ـ أن تقول الحكومة أمام القضاء أن الجيش المصري كان يحتل الجزيرتين فترد المحكمة على الحكومة المصرية بقولها : الجيش المصري لم يكن أبدا قديما أو حديثا جيش احتلال .. ، هذا مروع ولا أعتقد أنه سيمر بسهولة على الرأي العام ، بل إن من وضع توقيعه على تلك الوثيقة يمكن ـ الآن ـ أن يخضع للمساءلة القانونية بموجب نصوص قانونية واضحة ، منها نص المادة 77 : (يُعاقب بالسجن المؤبد كل شخص كلف بالمفاوضة مع حكومة أجنبية في شأن من شئون الدولة فتعمد إجراءها ضد مصلحتها) . لقد كانت إدارة النظام السياسي بكامله لهذا الملف إدارة سيئة ومترعة بالعجرفة والتعالي على الشعب وعلى مؤسساته ، بل وصل الحال برئيس الجمهورية أن قال بعد توقيع الاتفاقية أنه لا يريد أن يسمع كلاما آخر في هذا الموضوع ، وتم الزج بمئات المعارضين في السجون بسبب احتجاجهم على هذا الإجراء ورفضهم التفريط في التراب الوطني ، وهو الموقف الذي أيدتهم فيه أعلى محكمة إدارية مصرية ، بل أصبح هؤلاء "المسجونون" الآن ، أمام الرأي العام ، هم الممثلون الحقيقيون للضمير الوطني وهم الأكثر حرصا على وحدة التراب الوطني ، وهم المدافعون فعلا عن الدستور وسيادة الدولة المصرية على أراضيها ، كما كان وجه الاستعجال في تمرير تلك الاتفاقية واضحا منذ البداية ، ومثيرا للغرابة والشكوك ، خاصة وأنه لا يتعلق باتفاقية اقتصادية أو أمنية أو أي مصالح عارضة ، وإنما يتعلق بأرض الوطن وسيادته ووحدته ، وهي مسألة شديدة الحساسية ، وكان يفترض ـ كما ذكرت ذلك مرارا من قبل ـ أن يجري حولها حوار وطني جاد وكاف وأن تكون للمؤسسات الرسمية كلمتها ، سواء البرلمان أو القضاء ، وليس مجرد كلمة تخرج من فم رئيس الدولة ، أيا كان شخصه ، والمثير للشفقة ويشعرك ببؤس حال مؤسسات البلاد أن السلطة لم تتذكر عرض الاتفاقية على البرلمان عندما صدقت عليها ، ولكنها سارعت بعرضها على البرلمان عندما استبان لها أن المحكمة تتجه لإبطال الاتفاقية ، فبدا الأمر كما لو كان البرلمان هو "المحلل" الذي تلجأ إليه السلطة لتمرير إجراءاتها التي تعرف أنها باطلة أو مثيرة للشكوك أو مفرطة في حقوق الوطن أو المواطن ، وهذه صورة ما كان ينبغي أن تضع السلطة برلمانها فيها أبدا ، ناهيك عن صورة الوزراء والمسئولين المصريين وهم يناضلون بحماسة لإثبات أن الجزيرتين غير مصريتين وأنهما حق للسعودية ، هذا مشهد مزري للغاية ومهين لمصر ودولتها بغض النظر عن أي تفاصيل أو اعتبارات أخرى ، لقد بدوا وكأنهم محامون مستأجرون من قبل الحكومة السعودية . الدولة المصرية بكاملها الآن في مأزق ، مأزق داخلي وضع السلطة في موقع لا يشرف أي مصري عادي فضلا عن أن يكون مسئولا مستأمنا عن حماية التراب الوطني ووحدة أراضي الوطن وسيادته عليها ، ومأزق خارجي يضعها في صدام حتمي مع الحكومة السعودية التي من حقها أن تغضب باعتبار أنها تفترض أنها تتعامل مع "دولة" وعندما يتم التوقيع معها على اتفاقيات فإن هذه "الدولة" تكون قد استنفدت مسوغات شرعية هذا التوقيع ، وأعتقد أن إبطال تلك الاتفاقية بشكل نهائي كما هو الحال الآن سيكون له انعكاس على العلاقات بين البلدين ، وخاصة على التعاون الاقتصادي السخي للمملكة مع النظام المصري الحالي . كل التحية والتقدير لمن خاضوا بنبل ومروءة ووطنية تلك المعركة المشرفة ، وكل التحية والتقدير للقضاء الإداري ، الذي أثبت من جديد ـ رغم الأجواء المشحونة والعاصفة والمخيفة ـ أنه حصن الحريات وديوان المظالم ودرع الحماية لحقوق الوطن والمواطن .

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف