المصريون
د. محمد فتحي عبد العال
الفرعون الذي حير التاريخ
لم ينشغل التاريخ الأنساني قط بقضية مثل تحديد شخصية فرعون موسي فقد احتلت هذه القضية مساحة واسعة لدي المستشرقين والمؤرخين وعلماء الأثار علي السواء كما مثلت بؤرة شغف وفضول لدي كافة المتدينين ..وفي حديثنا اليوم نحاول أن نجيب علي هذا السؤال من زوايا مختلفة غير التي أنفق السابقون جم وقتهم في أثارتها والبناء عليها من حيث سبر أغوار المدد الزمنية المستمدة من التوراة والقران وتفاسير العلماء المسلمين ومحاولة الوصول منها الي شخصية هذا الفرعون والتي عادة ما يخلصوا منها الي التركيز علي الفراعنة الأطول حكما وعمرا حتي يمكن من خلالها استيعاب مدد زمنية تتعدي الاربعون عاما لحكم فرعون موسي علي أقل تقدير عند البعض وتصل عند أخرين الي اربعمائة سنة !!! ونظرا لتضارب هذه المدد بين التوراة والتفاسير والتاريخ الفرعوني فقد حاولنا أن نسلك مسلكا أخر الي هذا الفرعون مرجحين ما توافقت عليه أغلب الدراسات من أن فرعون موسي من ملوك الأسرة الثامنة عشر (الدولة الحديثة) و أن لقب فرعون (من برعا وتعني: البيت العالي) كما تقول الموسوعة البريطانية استعمل كمرادف لملك مصر بالمملكة الحديثة، منذ الأسرة 18 (1539 ق.م - 1292 ) ق.م .ومنها نستطيع أن نلمس دقة القران في استعمال الألقاب فعند الحديث في القرآن الكريم عن يوسف عليه السلام كان الخطاب عن ملك، بينما كان الخطاب مع موسى عليه السلام مع فرعون وهو ما ينفي أن فرعون كان اسما وليس لقبا كما تدعي بعض الدراسات وكان النص القرآني صريحاً كالآتي: [وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مِكِينٌ أَمِينٌ] يوسف: ٥٤ و بحثنا عن إجابة عن اسم فرعون موسي سوف يتضمن وقفات عند النصوص القرانية واختيارنا للقران لانه المصدر الأكثر وضوحا وتماسكا ونستهلها بقوله تعالي في سورة الأعراف ( وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) ( 137 ) لنبدأ رحلتنا عبر التاريخ والأية تحمل أشارة هامة أن فرعون الذي نبحث عنه دمرت أثاره ولم يعد لها وجود . وهو ما يجعلنا نرجح أن الفرعون الذي نبحث عنه هو أحمس الأول - مؤسس الأسرة الثامنة عشر أعظم الأسر الحاكمة في مصر وطارد الهكسوس و حكم من 1550 ق.م حتى 1525 ق.م- ومن أقدم الأثار التي تذهب معنا في هذه الجهة ما ساقه المؤرخ اليهودي يوسيفيوس بن متى، الذي عاش في القرن الأول الميلادي أن مانيتون – المؤرخ المصري الذي كتب تاريخ مصر القديم حوالي عام 280 ق.م(للأسف فقد في حريق مكتبة الإسكندرية عام 48 ق.م) أن طرد الهكسوس من مصر بواسطة أحمس ليس الأ خروج بني إسرائيل من مصر، وبالتالي فالمنطقي أن أحمس هو فرعون موسى وربما كان أوزرسيف الذى حاصره أحمس فى شاروهين هو موسى نفسه . فهل الهكسوس حقا هم اليهود؟ كلمة الهكسوس هى تحريف للكلمتين المصريتين حقاو وخاسوت التى تعنى حكام الأراضى الأجنبية وهى أحد التسميات التى أطلقها المصريون على الآسيويين بشكل عام وقد ترجمها مانيتون فى تاريخه المفقود بمعنى ملوك الرعاة فالمقطع الأوَّل "هك" يعني باللسان المقدَّس "مَلِكاً"، وأمَّا "سوس" فتعني "بدوياً" وذلك إنَّما هو بحسب اللسان الدارج. وهو ما يتفق مع قوله تعالي في القران علي لسان يوسف لأبيه وإخوته لَمَّا دَخَلوا عليه مصرَ (وَجَاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ)وكذلك مع قوله تعالي في سورة المائدة (وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ اذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنبِيَاء وَجَعَلَكُم مُّلُوكاً وَآتَاكُم مَّا لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِّن الْعَالَمِينَ)(20). نعود مرة أخري الي أشارة القران الي تدمير اثار الفرعون ومدي انطباقها علي أحمس الأول وقومه فلك أن تعلم أن مصدر المعلومات عن حرب أحمس مع الهكسوس كان مقبرة أحد قواده المدعو (أحمس إبن أبانا) حيث يروى هذا القائد على جدران مقبرته تاريخ حياته وكيف أنه تنقل فى الخدمة العسكرية كقائد لإحدى السفن ويذكر كيف تبع سيده فى حربه مع الهكسوس وكيف سقطت أواريس (عاصمة الهكسوس وهي مدينة صان الحجر حاليا بمحافظة الشرقية) بعد حصارها وكيف فر الهكسوس إلى مدينة (شاروهين) فى جنوب غزة وكيف حاصرها الجيش المصرى حتى اسقطها وكيف هربت فلول الهكسوس إلى زاهى ( كلمة مصرية قديمة كانت تشير إلى منطقة فلسطين وسوريا).وهذا ينقلنا الي سؤال أين الأثار الضخمة التي تليق بحاكم بمثل هذه القوة ؟! والأجابة تحملها لنا لوحة The Tempest Stele والتي تؤرخ الي عصر احمس الاول حيث حدثت عاصفة مدمره مصحوبة بفيضان او سيول مدمره دمرت المعابد والأهرامات وعثر علي أجزاء من هذه اللوحة فى معبد الكرنك (بدأ في بنائه الملك أمنحتب الثالث من 1405 حتى عام 1370 قبل الميلاد) وهو ما يجعل صورة الفرعون الذي وضع ملامحه القران أكثر قربا . ولا تتعدي أثار أحمس الباقية لوحة بمعبد الكرنك ذكر فيها أنشطته واتساع ملكه وعلاقات مصر بجيرانها وأشير فيها إلى الدور الذي قامت به والدته الملكة أعح حتب في القضاء على الهكسوس . إناء من المرمر نقش عليه اسم أحمس الأول وآخر للزينة من الخزف الأزرق ويوجد عليها صور الأسرى فضلا عن تماثيل صغيرة له والعديد من الجعارين مبعثرة عبر متاحف العالم بالأضافة الي البلطة والخنجر المعروضين في متحف الأقصر ولم يعثر له علي مقبرة حتي الأن!!! . ولأن الأية تطرقت الي مصير جمع أثار فرعون بقومه فأن والد أحمس وهو سقنن رع كل ما وصلنا عن جهاده ضد الهكسوس هو وثيقة متأخرة من عصر الرعامسة عرفت بإسم (بردية ساليه) ترصد كيف بدأ النزاع بين ملوك طيبة وبين الهكسوس و أن الملك سقنن رع (الثانى) كان فى ذلك الوقت حاكما على طيبة وكان معاصرا لملك الهكسوس أبوفيس( أبيبى) الذى أرسل يطلب منه إسكات أفراس النهر فى مياه طيبة لإنها تزعجه وهو فى قصره فى الدلتا !!!كما أن شقيق أحمس والسابق عليه في الحكم وهو الملك كامس وصلت الينا معاركه ضد الهكسوس عن طريق لوحة لصبى فى أحد المدارس كان مدرسه قد أملاها عليه كقطعة إملاء وقد إشتهرت بإسم (لوحة كارنارفون) ولوح حجرى عثر عليه فى أساسات معبد الكرنك وعليه 38 سطرا من الكتابة!!! وهو ما يعني أننا أمام فرعون وقومه دمرت أثارهم الا من بضعة سطور بين أركان المعابد !!!وهو ما نجد له تفسيرا مقبولا من خلال هذه العاصفة التي طالت أيضا معابد الاسرة ال 17 وهي الأسرة السابقة علي أحمس والتي يمثلها أبيه وأخيه . التوقف الثاني لنا سيكون عند قوله تعالي:(وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِي وَلَكَ ) سورة القصص آية(9). وهو ما يعني أن فرعون موسي كان عقيما أو لا يعش له ابناء والفرضية الثانية نجدها منطبقة تماما مع أحمس الأول فقد تزوج أحمس من شقيقته نفرتاري والتي أنجبت له ثلاثة أبناء أحدهم هو خليفته أمنحتب الأول وقد توفى ابنائه الأول والثانى في سن صغير ، وأربعة بنات هم مريت آمون وسات آمون و إعح حتب و ست كامس .كما يبدو أن ابنه امنحتب الأول قد رزق به متأخرا وهو ما يظهر جليا من وفاة أحمس الأول الغامضة عن عمر ناهز الاربعين أو الخمسين تقريبا ووصاية زوجته علي ابنه امنحوتب الأول، حتي بلوغه سن الحكم. التوقف الثالث لنا سيكون عند قول فرعون (فَقَالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلَىٰ) النازعات الآية 24. وقوله في نفس المعني (مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي )القصص الآية 38 والقول الأول لفرعون يعني عند بعض المفسرين أنه يقول: أنا سيدكم، أنا حاكمكم، الذي تجب عليكم طاعته، ولا تعني بالضرورة أنه هو خالق الكون وحتي وأن أخذنا بالمعني الحرفي للربوبية فعبادة أحمس كانت منتشرة في البلاد حتي الأسرة 19. نأتي الي نقطة لا يتوقف عندها الكثيرون وهي زوجة فرعون المؤمنة (آسيا بنت مزاحم ) و التي آمنت من آل فرعون وتربى في كنفها موسى عليه السلام، وقد صح في الحديث أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( أَفْضَلُ نِسَاءِ أَهْلِ الْجَنَّةِ خَدِيجَةُ بِنْتُ خُوَيْلِدٍ وَفَاطِمَةُ بِنْتُ مُحَمَّدٍ وَآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ وَمَرْيَمُ ابْنَةُ عِمْرَانَ).كما ذكرها القرآن الكريم كمثال للنساء المؤمنات ( وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آَمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (سورة التحريم، الآية 11 من المحال بالطبع علي كاتب التاريخ المصري القديم -الذي دائما ما يكتب الرواية الرسمية التي لابد وأن تحمل الثناء علي الفرعون وترفعه الي درجة القداسة وتجعل الجميع يدين له بالطاعة- أن يدون مثل هذا الأيمان والمخالفة الصريحة لفرعون ومن داخل بيته ولكن يمكن البحث عن زوجة متدينة تعلق بها المصريون وخلدوا ارتباطها وعبوديتها لله وهو ما تنفرد به الملكة احمس نفرتارى (سميت بذلك للتمييز بينها وبين نفرتاري زوجة رمسيس الثاني وتعني كلمة نفرتاري المحبوبة التي لا مثيل لها) حيث كانت اول من حملت لقب ""زوجة الاله"" أو "عابدة الإله" وهو ما يجعلنا نطمئن الي الترجيح أن نفرتاري هي اسيا . نأتي للتوراة في سفر الخروج 14يقول( فَلَمَّا أُخْبِرَ مَلِكُ مِصْرَ أَنَّ الشَّعْبَ قَدْ هَرَبَ، تَغَيَّرَ قَلْبُ فِرْعَوْنَ وَعَبِيدِهِ عَلَى الشَّعْبِ. فَقَالُوا: مَاذَا فَعَلْنَا حَتَّى أَطْلَقْنَا إِسْرَائِيلَ مِنْ خِدْمَتِنَا؟ فَشَدَّ مَرْكَبَتَهُ وَأَخَذَ قَوْمَهُ مَعَهُ وَأَخَذَ سِتَّ مِئَةِ مَرْكَبَةٍ مُنْتَخَبَةٍ وَسَائِرَ مَرْكَبَاتِ مِصْرَ وَجُنُودًا مَرْكَبِيَّةً عَلَى جَمِيعِهَا) وذكر استخدام المركبات الحربية علي هذا النحو من الوضوح يعني أننا أمام أحمس وهو أول من ادخل للجيش المصري العجلات الحربية واستخدمها في قتال الهكسوس . الأمر الذي أجده الأكثر طرافة في الأثار الفرعونية أنها علي الرغم من صمتها عن رصد الصراع بين فرعون وموسي أبت الا وأن تضع بين أيدينا قصة طريفة تضع أحمس الأول (الفرعون) وموسي في قضية واحدة بل وفي نزاع حقوقي!!!! وبالطبع موسي هذا ليس النبي موسي عليه السلام ففي قضية نزاع علي أرض وهبها أحمس الأول لملاحظ سفن يدعي نيشي ردا لاعتباره نجد اسم موسي الكاتب ببيت مال الاله بتاح!! . وبعد أن انتهينا من مناقشة أدلتنا السابقة والتي حرصنا علي تنوعها نأتي الي اسم فرعون في كتب المفسرين المسلمين واللافت فيها هو شبه أجماع حول اسم فرعون موسي و إسمه الحقيقي ( الوليــد بن مُصعَــب )!!! وهو ما يجعلنا نبحث عن أصل يربط هذا الأسم بالفرعون أحمس الذي نرجحه وقد غلب علي الكتابات العربية في مثل هذه الحقب القديمة فيما يتعلق بالاسماء الأعجمية أن يكون تعريبهم لها تعريبا معنويا وليس لفظيا والتعريب المعنوي طريقة تعطي معنى للاسم العربي لا تعطيه له طريقة كتابة النطق الاجنبي بحروف عربية وذلك برجوع الاسم الاجنبي الى جذوره اللغوية ، ثم ترجمة الجذر او اخذ مرادفه في اللغة العربية و اشتقاق الاسم منه فيكون للاسم العربي نفس معنى الاسم الاجنبي تماما وحتي نطبق هذا علي حالة فرعوننا أحمس فكلمة أحمس تعني المولود من القمر أو القمر ولده ( القمر معبود لدي الاشمونيين) والوليد تعني المولودُ حين يُولَدُ. أما اسم ابيه مصعب فنرجح أنها صفة لسقنن رع والذي لقب بالشجاع كما أن الشكل الذي وجد عليه مومياه يوحي بما كان عليه حال الرجل من المنعة والصعوبة حيث وجدت ثقوب في الجمجمة نتيجة الضرب بالحرب والبلاطى على رأسه ووجدت أسنانه تضغط على لسانه من شدة الألم !!وبتطبيق الأشعة السينية على جسده وجد في رأسه خمسة جروح، جرحان كانا على الجبين إثر ضربتي فأس، وجرح بآلة حادة أعلى الأنف، وآخر على الجانب الأيمن من العين اليمنى، والأخير أسفل العين اليسرى. نأتي الي صفات فرعون موسي كما ذكرها المفسرون وهي أنه أحمر قصير كأنه ثور و انه كان أصلع وأخينس والخنس (ذو أنف مرتفع ومتأخر عن الوجه قليلا" وهناك رواية لأبي بكر أنه قال : أخبرت أن فرعون كان أثرم "الثَّرَمُ، :انْكسارُ السِّنِّ من أصْلِها، أو سِنٍّ من الثَّنايا والرَّباعِياتِ" . وبمقارنة ذلك بمومياء أحمس والتي تم التعرف عليها عام 1886 بواسطة جاستون ماسبيرو، نجد طول المومياء1.63 سم (أي قصير) ولها وجه صغير نسبيا بالقياس مع حجم للصدر وأنف بارز وقدعثر علي مومياء أحمس الأول ضمن خبيئة الدير البحرى وهى مقبرة ضمت أيضا والده الفرعون سكنن رع تاعا والفراعنة تحتمس الأول والثانى وتحتمس الثالث ورمسيس الأول ورمسيس الثانى أشهر فراعنة مصر وقد سقطت في قبضة بعض لصوص الأثار لفترة وحينما اختلفوا أبلغ أحدهم السلطات فتسلمت مصلحة الأثار المومياوات و عندما وصلت هذه المومياوات إلى ميناء روض الفرج أصر موظف الجمارك علي دفع الرسوم المقررة ونظرا لعدم وجود بند مومياوات عنده فقد أخرجها الموظف بعد دفع الرسوم المقررة عليها بوصفها أسماك مجففة!!!!!!..... وفي النهاية نضع بين يدي القاريء دراسة حاولنا أن نكون فيها محايدين محاولين أن نصل فيها الي بعض الحقيقة وما أصعب الوصول لها في أزمنة غابرة غاب صناعها وانطوت صفحات تاريخهم بشكل يستحيل معه اكتمال الصورة الحقيقية . د.محمد فتحي عبد العال صيدلي وماجستير في الكيمياء الحيوية دبلوم المعهد العالي للدراسات الأسلامية رئيس قسم الجودة ومدير المكتب الفني بالهيئة العامة للتأمين الصحي فرع الشرقية
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف