الأهرام
عبد الجليل الشرنوبى
عندما عطس «أبو سِريعْ»
حبل سُرِّى ربط بين الدين والإبداع، منذ اكتملت دوائر الحياة بظهور الإنسان، حتى غدت العلاقة بينهما تكاملا لا تضاد فيه عبر التاريخ، وتجلت إعماراً لبنيان الروح الإنسانية، ولأبنية الشعائر الدينية، وشَدْواً يخاطب النفوس عبر الطقوس. ويحفل التاريخ بآثار السابقين الذين خلفوا من ألوان الفنون ما يجعل السياحة فى رحاب آثارهم ترقى لمرتبة العبادة التى تُعْمِل العقل تدبراً وتسوق للإيمان تفكراً، «قُلْ سِيرُوا فِى الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنشِئُ النَّشْأَةَ الآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ»، وهو ما يجعل الإيمان انعكاساً لجميل استخدام الحواس تذوقاً للجمال يؤهل للإيمان برب الجمال. وفى العلاقة بين الاستبداد والفساد من جهة والدين والفن من جهة أخرى، جامع هو (الاستخدام)، فالمستبد الفاسد، يعتبر الدين والفن من أهم أدواته، اللازمة لتأميم إرادة الشعوب، والضامنة لتغييب الوعى الجمعى عن المطالبة بالحقوق.

إن هذا الطرح حالياً لا يبدو منفصلاً عن واقع البحث فى أسباب القوة المؤهلة لنهضة الأمة المصرية أملاً فى مواجهة مشروع اجتثاث الأمم القديمة لبناء (عالم جديد) تستهدفه الإرادة الأمريكية وإداراتها المتعاقبة. وهو أيضاً الطرح الذى يتجدد كلما حاول الفن أن يطرق باب النقد للواقع بمكوناته وفى القلب منها (الواقع الديني).

ولأن علاقة الدين بالفن –أو العكس- رائجة التسويق، فإنها تتحول حال الطرح السلبى إلى واحدة من أدوات الانطلاق نحو صناعة نجومية التغييب والتسطيح والتفاهة، ولعل الواقع القريب حافل بنماذج لشيوخ استخدموا النقد الفنى المشخصن واحدة من أدوات الانتشار ليصير (الإفيه المنبري) هو الأكثر خلوداً من (البناء الروحي). وفى المقابل أكم من أعمال فنية انتقمت من مصدرى فتاوى تحريم الفنون عبر تجسيد هزلى لشخصية (شيخ) يسير خلف روائح الطبخ تارة وعطور الأنوثة تارة أخرى.

ولأن قضايا الدين والفن مضمونة التسويق، فهى قابلة للاستدعاء للعب دور المغيب للعقول والمشتت للتنبه كلما سعى أصحاب المصالح إلى ضمان استمرار مصالحهم على حساب الشعوب، وعندها تفتح النوافذ الإعلامية أذرعها لفتاوى تكفر الفن وأهله، أو تنادى بمصادرة أعمال وتدعو لإحراقها دنيا تمهيداً لجولة الحرق الممتدة فى الآخرة وبئس المصير. وعادة تبحث الوسائل الإعلامية عن الذين يتبنوا شذوذ الآراء من الطرفين لتسخن التصريحات وتشتعل الحلقات وتنهمر المداخلات وتتوه أو تخدر الجماهير بفعل جرعات لا تنتهى من المهاترات التى تعمل مطاحن العقول ضجيجاً بغير طحن، اللهم إلا الطحن فى الهواء.

الأزمة حالياً أن الأوطان لا تتحمل طحن التشتيت، ولا عجن التفتيت، ولا خَبْز الماء، وبالتالى فإن التعاطى مع العلاقة بين الدين والفن باعتبارهما خصمين، تتجاوز حدود التعطيل للتطور الإنسانى إلى المشاركة فى محو أوطاننا وطمس حضارتنا وانسحاق أمتنا تحت وطأة المشروع الأمريكى المستهدف (عالم جديد). ومما لا شك فيه إن المستهدِف لأوطاننا حين أعمل نظره بحثاً فى مكامن القوة لدينا، اكتشف أنه لا بد وأن يبدأ بخلخلة قواعد الجمال الإنسانى المؤهلة لحماية الهوية، ونكتشف أن الدين والفن برحابتهما الإنسانية شكلا عبر التاريخ منمنمة مصرية شديدة التفرد استطاعت أن تروى بذور الإبداع فى أرض الدين لتنبت نماذجً من عينة (الإمام الشيخ محمد عبده) تدبراً، والشيخ سيد درويش فناً والشيخ النقشبندى طرباً وأم كلثوم شدواً.

إن (مولانا) الإنسان المبدع، حين تعامل مع الإعمار باعتباره الرسالة الأسمى فى الحياة، اتخذ من فعل الإبداع منصة تشييد للنفوس ينتصر فيها للعقل متدبراً فى النقل، حتى يجنب المجتمع الإنسانى مغبة الاحتراق بنيران التطرف، تفعيلاً للدين كأداة إحياء، وتنزيهاً للفعل الاجتهادى عن القداسة باعتباره إبداعاً بشرياً قابلاً للنقد. فكان أن اجتمع الشيخ القارىء والفنان المنشد محمد عمران مع موسيقار الأجيال (محمد عبد الوهاب) والشاعر (عبد الوهاب محمد)، وعازف الكمان (عبده داغر)، فى جلسة مناجاة فنية شدا فيها الشيخ (ناداك قلبى خاشعاً ولساني) بينما ألسنة الحضور تعلن الفن إيماناً يهتف كل حين (الله).

إن تفعيل البناء فى مواجهة مشاريع الهدم المحدقة بنا، تستوجب على المبدعين ديناً وفناً أن يتكاملوا لطرح آلياتهم بعيداً عن عصور استثمار لهما أثبتت أن الفصل بينهما لا يصب إلا فى صالح التخلف، ولعل «الإفيه» الخالد فناً فى ذاكرة الجماهير، والذى جسدته العطسة الشهيرة التى دوت عبر أثير الإذاعة فى «على بابا والأربعين حرامي»، فكان أن هتف زعيم اللصوص (يرحمكم الله يا أبو سريع)، لكن الأخير رد نافياً (مش أنا يا ريِّس)، وتوالت حالة النفى من أفراد العصابة حتى أعلن الزعيم (يبقى فيه حد غريب بِينَّا) يؤكد أن (إفيه) فى عمل فنى قادر على زرع آداب الدين فى الوعى ليترسخ ببساطة تتجاوز كل زعيق الخطب والدروس الدينية، إنه نموذج قابل للتطوير والتطويع السريع، فأبدعوا يرحمكم الله لأن (فيه حد غريب بينا) يستهدفنا.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف