بحكم المهنة فى مجال الصحافة والدراسات الأكاديمية والتحليل الإستراتيجي؛ وبحكم الظروف التى تدفع للسفر المتواتر، سواء للمشاركة فى أنشطة تعليمية أو بحثية أو للعلاج؛
فإن الأسئلة من المصريين والأجانب حول الأحوال فى مصر كانت دائما ملحة. ورغم أن موضوع الديمقراطية وحقوق الإنسان كان يشغل دائما مكانا بارزا؛ فإن الدائرة كانت دوما تدور للتساؤل حول دور القوات المسلحة فى الحياة السياسية والاقتصادية المصرية. وبينما كانت إجاباتى على الحزمة الأولى من الأسئلة يدور حول أن القضية فى مصر ليست عن دور القوات المسلحة وإنما عن عجز النخبة المدنية فى ملء الفراغ السياسى فى البلاد ومواجهة التهديدات الملحة من قوى فاشية. أما الحزمة الثانية فكانت الإجابة أكثر تعقيدا.
كانت نقطة البداية دوما حول تقدير دور القوات المسلحة فى الاقتصاد المصري، والذى كان أغلبه لدى المتسائلين والدراسات التى استندوا إليها يدور حول نسبة 40% من الناتج المحلى الإجمالى (وفى بعض الأحيان بلغت المبالغة 80%). وكانت إجابتى الدائمة أنه لابد من التمييز ما بين «الملكية» و«الإدارة» و«التحكم»؛ فإذا كانت النسبة محسوبة وفقا للملكية فى الناتج المحلى فإن النسبة التى قدمتها كانت تدور حول من 3 % إلى 4%، وهى نسبة قريبة من تلك التى ذكرها الرئيس السيسى أخيرا وهى 2%. وفى الواقع أن مثل هذا الاجتهاد لا يكتمل ما لم يكن لدينا إطار مقارن لمثل هذه الحسبة، فعندما سألت عن نصيب القوات المسلحة الأمريكية من الاقتصاد الأمريكى لم أتلق إجابة واضحة رغم دورها المحورى فى الحياة الاقتصادية. فالثابت، على سبيل المثال، أن بناء قاعدة جوية أو بحرية فى ولاية بعينها يعنى حالة كبرى من الانتعاش الاقتصادي، وأن البحوث العلمية التى يقوم بها الجيش الأمريكى من أول البندقية إلى الصاروخ كانت هى المدد الذى جعل الصناعات المدنية الأمريكية تقود الولايات المتحدة إلى الانتصار فى الحرب الباردة. وفى أثناء الحرب العالمية الثانية فإن العالم البريطانى آلان تورينج كان هو ومعه مجموعة من العلماء البريطانيين والأمريكيين هم الذين قاموا من خلال مشروع «إينجما» بفك شفرات الاتصال الألمانية مما أدى إلى الانتصار فى الحرب. هذا الجهاز «إنيجما» كان هو الأب لتلك الآلة العجيبة التى نعرفها فى عالم اليوم: الكومبيوتر. إن الأب الروحى لشركات مايكروسوفت، وآبل، وجوجل، وسامسونج، والفيس بوك، والتويتر، كان القوات المسلحة البريطانية والأمريكية. والحقيقة أن شركات مثل بوينج وجنرال موتورز وأمثالها لم تكن تصل إلى ما وصلت إليه إلا نتيجة ما قدمته معامل الجيش والبحرية والطيران الأمريكية من خلال مشاريعها الممتدة من الأرض إلى الفضاء الخارجي.
ولكن القضية فى مصر لها أبعاد أكبر بحكم الظروف التاريخية الراهنة للتطور المصرى فى العقد الثانى من القرن الحادى والعشرين. فالحقيقة أن النمو الاقتصادى المصرى يحتاج لما هو أكثر ـ من خلال الاستثمار الأجنبى مثلا ـ من كل الجهود المتاحة للقطاع المدنى والآخر العسكري. فوفقا لتقديرات البنك الدولى فإن معدل النمو المتوقع للاقتصاد المصرى خلال العام الحالى هو 4%؛ وهو ما ليس بعيدا كثيرا عن معدل النمو خلال العامين السابقين 4٫4% ، 4٫2% على التوالي. هذه الأرقام كلها أقل بكثير مما تحتاجه مصر التى لكى تتمكن من عبور حواجز الحاجة والعوز الحالية فإنها تحتاج لأكثر من 8% كمعدل للنمو أى ضعف المعدل الحالي. وحتى يتحقق ذلك فإن القوات المسلحة عليها أن تضاعف جهودها إذا استطاعت، وكذلك القطاعان الخاص والعام المصرى (مضافا لها القطاعان التعاونى والأهلي) لكى نصل إلى ما نريد. المعنى العملى لكل ذلك هو أن يصل الاقتصاد المصرى إلى مرحلة التشغيل الكامل الذى يشمل عمل المصانع المتوقفة، والاستخدام الأكثر كفاءة للأرض الزراعية، والاستفادة من التطورات التكنولوجية العالمية.
القضية المثارة فى الخارج ومصر فيها قدر من الافتعال، فهناك ما يكفى من رأس المال الميت فى البر والبحر فى مصر الذى يحتاج إلى بعث جديد؛ وربما كان مانحتاجه هو نوع من تقسيم العمل بحيث تقوم القوات المسلحة بمشروعات البنية الأساسية، وهى مشروعات عالية القيمة؛ بينما يقوم القطاعان الخاص والعام أو القطاع المدنى بشكل عام بكل ما عدا ذلك. المسألة هى أن احتياجات مصر تتطلب تعبئة كل طاقتها لا يستثنى منها أحدا ولا يستبعد؛ وحتى يمكن حدوث ذلك فإن هناك قضايا تحتاج إلى حل؛وربما كان على القوات المسلحة أن تلعب دورا أكبر فيها لأنها تتعلق بقواعد المنافسة ليس الاقتصادية فقط، وإنما فى التعامل مع أجهزة الدولة. فلا توجد شركة خاصة أو حتى عامة فى مصر لها من النفوذ والقدرة التى تجعل السلطات البيروقراطية فى المطارات والموانى أكثر إيجابية فى التعامل، ولا الحصول منها على التراخيص أو الطاقة، أو تتم بسلاسة دون اللجوء إلى «مخلص» أو الفساد المباشر. إصلاح البيئة الاستثمارية سوف يكون مفيدا للجميع، وفى ذلك توجد قضية الأرض وتوافرها والتى يوجد منها ما يكفى لكل أشكال الاستثمار المدنية والعسكرية، والداخلية والخارجية. لقد سبق واقترح المهندس صلاح دياب فكرة «بنك الأراضي» التى توضع تحت سيطرته عمليات التصرف فى الأرض المصرية للأغراض المختلفة سواء كانت للاستثمار أو حماية الأمن القومي. الفكرة هنا وجود جهاز أو مؤسسة تساعد جميع أطراف العملية الإنتاجية والاستثمارية فى مصر على العمل والنمو وتلبية احتياجات المجتمع المصري.
وضع القضية باعتبارها تخص الاقتصاد المصري، يجعلها قضية شاملة أكبر من الأوصاف الداخلة فيها مدنية كانت أو عسكرية؛ كما أن تحديد المهمة بأنها رفع معدلات النمو إلى ضعف ما هى عليه الآن يجعلنا أكثر وعيا بأبعاد القضية وأكثر قدرة على عرضها على العالم الخارجي.