المصريون
د. محمد فوزى عبد الحى
الركن الذي نسيناه!
هل تعجب مثلي في دهشة .. تتناوبك مشاعر الألم والحزن .. تقتاتك ديدان من تاريخ المزابل.. وأنت لا زلت تتساءل.. عن هؤلاء.. عن الشيخ الذي يحفظ القرآن كيف يصحب الهوى والبهتان؟ عن الراهب الناسك كيف يقبّل في خشوع ظلامات الصولجان؟ عن الكاتب الكبير كيف يبيع علمه بحفنة ذهب بعد أن مضى قطار عمره وفني شبابه؟ عن رجل الأعمال الثمانيني الذي لا يزال يتهرب من الضرائب ويمتص دماء الفقراء؟ عن العاهل العجوز الذي يسرف في البغي والبغاء وقريب منه نداء السماء؟ عن عامة العجائز الذين يرتعون في المظالم، وقد ذهبت قواهم، وزاغت أبصارهم وبصائرهم، وقبورهم مفتوحة تنتظر الإذن بالدخول، وكأنهم يشرحون قول الله "قل من كان في الضلالة فليمدد له الرحمن مدا"؟ عن أمتنا الضائعة بين بغي الملوك، ونفاق الشيوخ، وعبادة المال والسلطة من دون الله؟ إذًا، فاستمع لهذه الحكاية.. فربما فيها بعض شفاء.. يحكي الأستاذ عباس الصالحي مترجم مجموعة رسائل النور الشهيرة للقطب الصوفي المبدع بديع الزمان النورسي أن إحدى الدول العربية كلفت لجنة بإعداد مقررٍ تعليمي لعلم العقيدة الإسلامية، وبعد الفراغ من مرحلة الإعداد، أوكلوا للأستاذ الصالحي مهمة مراجعة الكتاب.. قرأ الصالحي الكتاب وجعل يسأل أين ركن الإيمان باليوم الآخر؟ أجابوه: موجود! بحثوا عنه لكن لم يجدوه.. فكتبوه لاحقا بعنون "الركن الذي نسيناه".. ويا ليتهم وحدهم من نسوه أو غفلوا عنه، بل هي أمة تمضي حقبا من عمرها، وهي في غفلة عن إيمانها وربها وبقائها وصلاحها، وهذا شأن قادتنا في الفكر والسياسة والاقتصاد والاجتماع والعلوم.. يعملون ليومهم الفاني وقد خفتت في قلوبهم أضواء الإيمان باليوم الباقي.. ولكن من يطيق هذا النوع من الإيمان الحي، يجيبك قيس بن أبي حازم التابعي الصديق: "من هرب من النار إلى الجنة ونبذ سوء العادة إلى خير العبادة"؛ فالإيمان باليوم الآخر والجنة والنار لا ينتمي لعالم الروح فحسب، بل يشكل بواعث عملية لإصلاح عالم المادة اليوم وبناء جنة اليوم لاستحقاق جنة الغد. تأمل معي واقع الأمة، وقارن واقعنا اليوم بواقع الأمم من حولنا، ستجد بونًا غير مقبول ولا معقول بين النظرية والتطبيق، بين الخطب الرنانة والوقائع المحزنة، بين الوعود التي تركب النجوم، والحقائق التي تغوص في لجات الوحل. فالواقع يشبه الفارق فيه الفارق بين حياة الناس في الشارع وحياتهم في الدراما الطبقية التي تهيم أحداثها في ساحات الفراغ ونوادي العشق والترف ناهيك عن الاهتمامات التافهة والمزيفة.. إذا ما تركت واقع الدراما إلى دراما الواقع استجليت حقيقة الأمر، فإذا أنت بأمة تأكل ولا تعمل، وتقرأ ولا تعقل، وتنظر ولا تطبق.. وإذا أنت بنخبة تذكر وهي ناسية، وتخطب وهي فارغة، وتتكلم بالعظيم من الكلام وهي عاطلة، وتدعي الشعور وهي متبلدة.. وتتساءل في حيرة..أين مكمن الخلل؟ وهو السؤال الذي كان به البدء.. فأعاجلك بالجواب: إن الخلل كما أراه خلل في حقيقة الإيمان باليوم الآخر.. هذه الحقيقة الكبرى التي لا تجد لها في حياتنا كبير أثر؛ فأصبحت الأمانة مغنما، والمسئولية متجرا، والضمير في غيبوبة، والحيوان المتربص بالشرور والمفاسد يرتع في دخيلة نفوسنا ومن حولنا. لقد نسي صاحب الأمانة اليوم الآخر فخانها، ونسي العالم الأمانة فأكل بتضييعها، ونسي التاجر اليوم الآخر فعبّد نفسه للمكاسب ومارس الخديعة والغش والاحتكار والتهرب الضريبي، ونسي الأثرياء اليوم الآخر فمنعوا الزكاة، واستغلوا العمال الفقراء بخسا لأجورهم وإرهاقا لأبدانهم واستغلوا المواطنين يلهبونهم بنيران أسعار لا تهدأ، وهم في غفلتهم قد نسوا اليوم الآخر.. نسي الطبيب اليوم الآخر فعمل في تجارة الأعضاء البشرية، ونسي المدرس اليوم الآخر فأصبح جل همه الدرس الخصوصي، ونسي الصانع اليوم الآخر فأصبح همه استغفال العملاء.. وهنا أبصر جميل المقاصد التي تلهمها الدار الآخرة.. أرأيت كيف يصير الإيمان بالآخرة صلاحا للدنيا وكيف يصير ضعف الإيمان أو ذهابه ضعفا للدنيا وذهابا لجمالها وصفائها وسعادتها... بيد أن وجود الآخرة ضرورة أملتها نواميس الله "الحق" الذي فارق بذاته وصفاته ألوان الباطل، ليعرض فيها كمالات جمال "العدل" الإلهي الذي لا يظلم، و "العلم" الإلهي الذي لا يغفل ولا يجهل.. وإذا اختلت مقاييس العدالة في الدنيا فاتشحت بالقبح وتوسدت النقيصة، عندئذ تشرق شمس ميزان العدالة في الآخرة لتضيء أجمل مشاهد الآخرة وأجل معانيها لأهل المظلمة في الدنيا.. فلن يذهب كذاب بقبح كذبه، ولا منافق بتلون وجهه، ولا غادر بغدره.. وأنى لهم ذلك وهو يوم الفضيحة: "ينصب لكل غادر لواء يوم القيامة، يقال: هذه غدرة فلان".. وكيف يذهب ظالم بظلمه والعدل جل جلاله يقول: "ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا"، وكيف يرتاح غدا من أغلق أوصاد ضميره اليوم صمتا على الشر والقبح، أو مساكنة للباطل والخبث.. فلتقر عين المهضومين، وليهدأ بال المظلومين، وليستكن قلب المقهورين؛ فإن للحق والعدل ربًا سمى ذاته العلية بالحق والعدل، وليكن الإيمان باليوم الآخر صلاحا للفاسدين، وتذكرة للغافلين، ووعيدا للآثمين وترياقا للمهضومين. د. محمد فوزي عبد الحي كلية اللغات والترجمة. جامعة الأزهر

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف