محمد ابو الفضل
الصراعات والعمل الإنسانى والإعمار
الحروب والصراعات والتوترات التى تموج بها المنطقة العربية، لها زوايا عديدة، التمعن فيها يمكن أن يكشف عن جوانب كثيرة قد تكون غائبة عن البعض، ولعل البعد الإنسانى أحد هذه الأوجه، التى تعبر عن عمق المآسى التى نشاهدها يوميا، ومن يستمع لمشاهدات البعض مباشرة، ربما يعيد النظر فى مسلمات كان يعتقد فى صحتها.
خلال يومى الاثنين والثلاثاء شاركت فى ندوة عن النزاعات والعمل الإغاثى بدولة الكويت، بدعوة من المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب، وكانت حافلة بالشهادات الحية التى تؤكد أن المسألة ليست بالسهولة التى كنا نتخيلها، فوراء كل قافلة مساعدات ومعونات، كتيبة بشرية تبذل جهدا خارقا لتوصيلها إلى مستحقيها من اللاجئين والمشردين والجوعى والمرضى فى بلدان مختلفة، لأنه مطلوب من القائمين عليها أن يتجاوزوا سلسلة طويلة من العقبات الأمنية والسياسية والجغرافية، ومفروض أن تصل إلى أماكن بعيدة، بعضها تتحكم فيها جهات لا تريد أن يكون هناك شاهد عيان على ما ارتكبته وترتكبه من أعمال أقل ما توصف به بأنها «ضد الإنسانية».
الصعوبة الحقيقية تكمن فى التحول الحاصل فى المفهوم العام للدور الإغاثي، الذى طرأت عليه تغيرات كبيرة، وجرى عبور الدور التقليدى المعروف، فقد كانت المجاعات فى الصومال والسودان وجيبوتى وإريتريا وبعض الدول الأفريقية الأخرى من أهم البؤر الجاذبة للمساعدات والإعلام، لكن الآن لم تعد هذه المنطقة تحتل حيزا من شواغل كثيرين، لأن ما يدور فى سوريا أصبح فى مقدمة الاهتمامات الإقليمية والدولية فى هذا الفضاء، الأمر الذى لا يخلو من أسباب سياسية، دفعت بعض الجهات للضغط إعلاميا لتحتل الأزمة السورية سلم الأولويات فى المجال الإنساني، للتأثير على وجدان الشعوب، وإيجاد مبرر أخلاقى لتركيز حكام وقيادات كثيرة على تفاصيلها.
الكويت واحدة من الدول القليلة التى لم تشغلها هذه الجزئية المثيرة، وقامت بدور معتبر فى سوريا وغيرها، فكما وصلت مساهماتها إلى حلب، دلفت أيضا إلى أفغانستان وشمال العراق وجنوب السودان والصومال وجيبوتى ودول كثيرة فى قارات عدة، ووصلت قيمة ما قدمته خلال السنوات الماضية إلى نحو 350 مليون دولار، وهو ما جعلها رائدة فى مجال العمل الإغاثى والإنسانى عموما.
متحدثون كثيرون فى الندوة ثمنوا هذا الدور، وأكد من قاموا عليه أو أسهموا فيه ووقفوا خلفه أنه نابع من حكمة وقناعة القيادة الكويتية بهذا الدور، وهو ما يكمل أدوات القوة الناعمة المعروفة منذ زمن عن الكويت، حيث قامت بجهود كبيرة فى المجال الثقافي، جعلتها واحدة من الدول المؤثرة، ومكنتها من الوجود والحضور بصورة لافتة، لذلك تصب أعمال الإغاثة فى هذا الجانب، فالمساعدات التى قدمت لدول متعددة وفى أماكن متفرقة، حفظت لهذه الدولة مكانة، جعلتها رائدة فى مجالات عدة.
فى حين هناك قوى إقليمية ودولية، تسعى لتصدر مشهد العمل الإنساني، لغسل يديها من جرائم حرب ارتكبتها أو التغطية على عمليات قذرة تستعد لها، وهو ما يُظهر حجم النفاق والتناقض والازدواجية التى تطغى على أعمال البعض، أملا فى الحصول على صك لإبراء الذمة من الانتهاكات التى أقدموا عليها، لذلك نجد أن الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا من أكثر الدول تدخلا فى الصراعات والنزاعات، بشكل مباشر أو غير مباشر، وهى أيضا من أشدها حماسا للعمل الإغاثي، وتشدقا بالخطاب الإنساني.
اللافت للنظر أن دور المنظمات العاملة فى هذا الحقل ازداد صعوبة فى الوقت الراهن، لأن المساعدات التى يتم توصيلها لا تتم فقط وسط حروب وصراعات مزمنة، بل فى خضم معاناة لوجستية قاسية تتحكم فى مفاتيحها قوى وفصائل وحركات، ما يضاعف من أعباء المهمة، لأن القائمين عليها قد يضطرون إلى تقليص دورهم وحصره فى مساعدات طفيفة تقدم إلى مناطق معينة، أو يستجيبون لأفكار غير مفهومة أو مهضومة.
فى كل الأحوال تمكن الهلال الأحمر الكويتى من أن يتخطى صعابا كثيرة، ويقدم مساعداته وسط ضجيج النيران المادية والمعنوية، ويتخطى حزمة كبيرة من التعقيدات، تعزز الدور الإنسانى الذى يقوم به منذ زمن، خاصة بعد نجاحه فى توسيع المفهوم الإغاثي، من المساعدات التقليدية، متمثلة فى توفير المأكل والمشرب والملبس والدواء، إلى محو الأمية والتعليم وبناء مساكن ومستشفيات.
الحديث عن النزاعات فرض طقوسه على الندوة الكويتية، وجعل الجلسة المخصصة لقضية إعادة الإعمار على خلفية النزاعات تبدو ساخنة، لأنها ركزت بشكل أساسى على ما يدور فى سوريا، ومع أن بعض المتحدثين (من سوريا) ظهرت على طروحاتهم مواقف أيديولوجية، وربما يكون هذا حقهم، لكن المشكلة أن هذه المواقف طغت أحيانا على رؤيتهم العلمية، مع تسليمنا بوجود مأساة إنسانية حقيقية فى سوريا، والانصاف يفرض القول أن هناك جهات عديدة مسئولة عنها، من بينها أخطاء بشعة ارتكبها النظام السورى وغيره من القوى الفاعلة على الأرض، وركزت مشاركتى فى هذه الجلسة الساخنة على ثلاث نقاط رئيسية.
الأولي، أن مشروع مارشال الذى مولته الولايات المتحدة الأمريكية لإعادة إعمار أوروبا، عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية، كان مشروعا ينطوى على رؤية إستراتيجية شاملة، ولم يتكرر مرة أخري، وله جملة من الأهداف التى تحافظ على المصالح الأمريكية، والجهود التالية له كانت لها صبغة فردية، بمعنى أن الإعمار اقتصر على هذه الدولة أو تلك، وغالبيتها لم تنجح بصورة كاملة، بسبب وجود معوقات، تتعلق بالدول المانحة أو الممنوحة.
الثانية، تجارب إعادة الإعمار فى المنطقة العربية واجهها فشل ذريع، من فلسطين وحتى الصومال، وربما نجحت فى جنوب لبنان لأسباب تتعلق بالجهة الرئيسية المانحة (إيران) والتى كانت حريصة على تقوية النفوذ الاجتماعى لحزب الله، ومتوقع أن تكون المشكلة أشد مرارة فى سوريا واليمن، وشككت فى إمكانية إعادة تجربة مشروع مارشال فى المنطقة العربية، للخصوصية التى تمتع بها، وتغير الأهداف والبيئة المعقدة وكثرة اللاعبين والمتنافسين وتضارب التقديرات.
الثالثة، أن عملية الإعمار وتحديد الجهة القائمة عليها، لها علاقة وثيقة بأوزان القوى الفاعلة فى الصراعات والنزاعات، لأن إعادة التأهيل محكومة باعتبارات إستراتيجية، وبالتالى فروسيا مثلا سوف تمتلك مفاتيح الحل والعقد فى مسألة إعمار سوريا، كما هيمنت على الحرب وحسمتها على طريقتها، وهى الآن تمسك بخيوط كثيرة فى عملية التسوية السياسية، وبالتالى يمكن أن يكون هذا الملف بمنزلة حقل ألغام جديد، تتصادم فيه الطموحات والحسابات، بدلا من أن تلتقى عند قاعدة مشتركة.