محمد سعد عبد الحفيظ
تيران وصنافير.. ومصير النظام
عندما تصطدم قرارات نظام حكم في دولة محترمة برفض شعبي كاسح، يستقيل النظام احتراما للدستور والقانون ولإرادة الشعب صاحب الولاية وواهب الشرعية.
حدث ذلك في إيطاليا عندما أعلن رئيس وزرائها السابق ماتيو رينزي استقالته إثر خسارته الاستفتاء على تعديلات دستورية طرحتها حكومته مطلع ديسمبر الماضي، سبقه إلى ذات المصير رئيس الوزراء البريطاني السابق ديفيد كاميرون الذي أعلن رحيله فور اختيار البريطانيون الخروج من الاتحاد الأوروبي في يونيو الماضي رغم تحذيرات كاميرون من العواقب الاقتصادية الوخيمة لمثل هذه الخطوة.
في الدول المحترمة أيضا لا يمكن لحكومة أيا كانت شعبيتها أن تهدر أحكام القضاء أو تلتف عليها، ففي بريطانيا وخلال مشاركة جيوش المملكة المتحدة في معارك الحرب العاليمة الثانية ضد هتلر وجيوشه، أمرت محكمة بريطانية بنقل مطار حربي بعيداً عن منطقة سكنية، لأنه يزعج الأهالي ويعرض حياتهم للخطر، وأعطت المحكمة مهلة سبعة أيام لتنفيذ الحكم، وعندما وصل خبر الحكم إلى ونستون تشرشل، سأل عما تبقى من زمن لتنفيذ الحكم، فأخبروه 48 ساعة فقط، فأمر بنقل المطار على الفور قبل انتهاء المدة، وقال قولته الشهيرة “أهون أن نخسر الحرب من أن يخسر القضاء البريطاني هيبته”.
في لقائه بما يسمى بـ”الأسرة المصرية” منتصف أبريل الماضي، قال السيسي مدافعا عن موقف نظامه الذي وقع اتفاقية لترسيم الحدود مع السعودية تتنازل مصر بمقتضاها عن جزيريي “تيران وصنافير” للمملكة، “أنا خدت الضربة في صدري”، في إشارة إلى أن القرار قراره هو أخذه ومستعد لتحمل عواقبه.
ثم عاد السيسي في ذات اللقاء ليشرك معه مؤسسات الدولة في تلك الخطوة قائلا: إسألوا كل الناس.. طب والله سألت كل الناس.. كل مؤسسات الدولة.. يعني وزارة الخارجية بأرشيفها السري على مدى تاريخ وزارة الخارجية، وزارة الدفاع والأرشيف السري لوزارة الدفاع، المخابرات العامة وأرشيفها السري الذي لا يطلّع عليه أحد .. شوفوا الموضوع وردوا هل لديكم شيء؟ لأ .. والحقيقة النسبة الغالبة منهم كانت منصفة لأن القانون يعني في الأمور دي مبيحتملش حاجة تانية.
وأكمل السيسي لومه على المصريين الذين يشككون في نوايا رئيسهم الوطني الذي استعان بهذه المؤسسات قبل أن يتخذ قراره قائلا: يعني مفيش في وزارة الخارجية حد وطني؟ كلهم ناس مش كويسين بيبيعوا بلدهم؟ طيب.. مفيش في المخابرات العامة حد وطني؟ وكلهم عاوزين يبيعوا بلدهم؟.. طيب مفيش في الجيش حد وطني؟ وكلهم مستعدين يعملوا يبيعوا بلدهم؟ إنتو حاجة صعبة قوي .. صعبة بجد دي بلدكو ..ودول ناسكو.. لما تشككوا فيهم بالطريقة ديّت.. فاضل إيه تاني.
وأنهى السيسي حديثه بالجملة الغاضبة الشهيرة: أنا قلت كلام كتير في الموضوع دوّت، خليني أحسمه أو أنهيه أرجوا الموضوع دا منتكلمش فيه تاني، أرجو إن إحنا منتكلمش فيه تاني.
بحسب حيثيات حكم “الإدارية العليا” الأخير الذي أبطل اتفاقية ترسيم الحدود وجعلها هي والعدم سواء، فإن نظام الحكم حاول الاعتداء على أحكام الدستور وعلى وجه يمثل إهدار إرادة الشعب، إذ قالت المحكمة: أنه لا يجوز للسلطة التنفيذية إجراء عمل أو تصرف ما محظور دستورياً ويكون لكل ذى صفة أو مصلحة اللوذ إلى القضاء لإبطال هذا العمل، ولا يكون لها التذرع بأن عملها مندرج ضمن أعمال السيادة، إذ لا يجوز لها أن تتدثر بهذا الدفع لتخفى اعتداءً وقع منها على أحكام الدستور وعلى وجه يمثل إهداراً لإرادة الشعب مصدر السلطات.
وحذرت المحكمة من التنازل عن تراب الوطن فـ”الحفاظ على هذا التراب، والدفاع عنه فريضة مُحكمة وسُنة واجبة، فهذا التراب إرتوى على مر الزمان بدماء الشهداء التى تُعين وتُرسم حدوده باق وثابت بحدوده شمالاً وجنوباً، شرقاً وغرباً، وسلطات الدولة متغيرة”.
وأكدت المحكمة على أن التنازل عن الجزيرتين سيشكل تهديدًا دائمًا للأمن القومى المصرى، وإضرارًا بمصالحها الاقتصادية في مياهها الداخلية الإقليمية.
الحكم الذي هو عين الحقيقة حذر في حيثياته السلطة القائمة من تجاوز أحكام الدستور وإهدار الإرادة الشعبية والالتفاف على أحكام القضاء، مع ذلك فإن تصريحات رجال النظام سواء في الإعلام أو في مؤسسات الدولة تلمح إلى أن النظام ماض في غيه ومصر على تجاهل تحذيرات المحكمة.
السيسي الذي أقسم على احترام القانون والدستور أمام الجمعية العمومية للمحكمة الدستورية، وصعد إلى موقعه على أنقاض نظام حكم أهدر أحكام الدستور والإرادة الشعبية، لا طريق أمامه إلا احترام حكم “الإدراية العليا” وإلا فمصير سلفه سيكون محتوم عليه.