محمد جبريل
ع البحري .. المعاش .. بداية جديدة
إذا كان علي مبارك قد كتب خططه ليفيد منها قارئو العربية ودارسو المكان المصري بخاصة. وإذا كان يوسف الجزايرلي قد وضع خططه للغرض نفسه. وان قصر جهده علي المكان السكندري. فإن حسن خليل لم يوضح الهدف من كتابة نوتته الصغيرة. تتضمن شوارع بحري وميادينه وأزقته. وأهم معالم الحي القديم. جمله القصيرة المركزة تشي بانه قد كتب هذه النوتة ليزجي فراغ رحلة المعاش. أو ليفيد منها في مشروع أعد. وكان هو وحده أعلم بتفصيلاته. لكن الرجل - فيما يبدو - عدل عن مشروعه. فأهدي النوتة إلي صديقنا المشترك الشاعر الراحل عبدالله أبو رواش. وحين علم أبو رواش بمشروع روايتي "رباعية بحري" التي تعني بالحياة في الحي منذ أواخر الحرب العالمية الثانية إلي قيام ثورة يوليو. وجد في المعلومات التي تحويها النوتة الصغيرة ما قد يفيدني في تذكر أسماء الأماكن. علماً بأن صلتي بالإسكندرية اقتصرت - منذ إقامتي في القاهرة - علي الزيارات المتقاربة. أو المتباعدة.
حسن خليل هو خليل الفحام في روايتي "أهل البحر". لم تتح لي الظروف لقاءه. لكنني حاولت التعبير عن الامتنان لإنجازه المهم. فجعلته شرياناً رئيساً في جسد الرواية.
رفض الرجل ان تتحول رحلة المعاش الي جسر انتظار. حاول ان يصنع شيئاً. يشغل به وقته. ويفيد منه الناس. بدأ رحلة في الزمان والمكان. عبر مساحة محددة ومحدودة. بدايتها ميدان المنشية ونهايتها سراي رأس التين. نبضها رفض الانتظار السخيف. والتغلب علي الملل والوحدة. والتعبير عن الشوق والحنين والمحبة. ومحاولة رسم لوحة بانورامية للزمان والمكان في بحري. تهب المثل لمن يريد ان يصنع شيئاً. حتي لو كان موظفاً بدأ رحلة المعاش.
لا أعرف عن حسن خليل إلا أنه كان موظفاً صغيراً في محافظة الإسكندرية. ظني انه حاول ان يشغل رحلة المعاش - مثلما يشغلها الكثيرون - برعاية أبنائه وأحفاده. والتردد علي بيوت الله. والجلوس الي اصدقاء العمر في المقهي القريب.. لكنه أضاف إلي ذلك سعياً لإنجاز مهم. كان هو الدافع لزن أكتب هذه الكلمات. أشير من خلالها إلي ان رحلة المعاش. أو حتي الشيخوخة. لا تعني اجترار الملل وتوقع النهاية. لكنها قد تكون بداية جديدة في حياتنا. نفرغ فيها لما صرفتنا عنه أيام الوظيفة.
أذكر بالمثل أدبياً. في أستاذنا نجيب محفوظ. الذي أضاف إلي المكتبة العربية - منذ أحيل إلي المعاش - كان متميزاً من الأعمال الإبداعية. يفوق ما صدر له قبل ان يبلغ الستين!
وسع محفوظ من دائرة صداقاته وعلاقاته الإنسانية. وزاد من وقت حياته الأسرية. لكنه لم يهمل نشاطه الإبداعي. فكتب الكثير من الأعمال التي اتصلت بما سبقها. فشكلت في مجموعها مشهداً روائياً متكاملاً. بلغ آيته في اصداء السيرة الذاتية. وأحلام فترة النقاهة. هذين العملين اللذين يذكر انني بمن يعصر الليمونة. وحين تقل قطراتها. فإنه يضعها حول سكين يعتصر القطرات المتبقية!