الوطن
أمانى هولة
سجادة صغيرة خضراء
طفل صغير لا تتعدى سنين عمره أصابع اليد الواحدة.. وجهه الجميل ملىء بالبراءة والحيرة وعلامات استفهام كثيرة.. لماذا يعيش هو وأخوته الكثيرون معزولين عن العالم؟ ولماذا لديهم عدة أمهات بلا أب كما يرى فى التليفزيون.. قد يكون أحد هؤلاء الذين يأتون إليهم أحياناً محملين بالهدايا والحلوى.. التى يختفى معظمها دون أن يذوقوها.. من باب الاحتياط كان «ساجد» يجرى ويلقى بنفسه فى حضن ذلك المقبل لعله بابا.. ولكن كل مرة يأتى باب جديد قلما يعود مرة أخرى، مرات قليلة تلك التى غادر فيها الدار هو وإخوته، حيث المخلوقات الضخمة تجرى فى الشوارع المزدحمة بجنون يخيفه.. وفى الحديقة الكبيرة يظل الأطفال يشيرون إليه ويضحكون فيبادلهم الضحك ويجرى متلهفاً للعب معهم لكنهم يجرون مبتعدين بضحكاتهم التى أصبحت تؤلمه لا يعرف لماذا؟ فقد كان فقط يريد أن يشاركهم اللعب وبعض الحلوى الرخيصة التى يدخرها من العيد، يعود بعد يوم حافل إلى عالمه الصغير.. يشعر بجوع شديد.. وكالعادة يسقط الطعام على ملابسه البسيطة المتسخة أصلاً.. تركله (الدادة)وهى تصيح غاضبة.. يبكى وقد حرمته من وجبته المتواضعة الخالية من (الكوكو) الذى يحبه ولا يأكله إلا فى الأعياد وعندما يأتى زائرون، تعود حاملة ما تنظف به المكان يرفع ذراعيه للاحتماء من ضربات أخرى محتملة.. تشعر بخجل من نفسها تربت عليه فى اعتذار متأفف.. فيلقى بنفسه فى حضنها لتتعجب من ذلك القلب الصغير الذى لا يعرف سوى الحب، أهداه يوماً أحد الزائرين سجادة صغيرة خضراء.. فكان يطيل السجود عليها فرحاً.. لأنه بعد أن ترجى ماما الكبيرة كثيراً للذهاب إلى المدرسة مثل باقى إخوته ليكون لديه حقيبة وكتب وألوان.. قالت له إن الطريقة الوحيدة أن يدعو ربنا.. ومنذ ذلك الحين أصبح يجرى ليحضر سجادته الصغيرة الخضراء كلما سمع ذلك الصوت المحبب له من مئذنة الجامع القريب.. مترنماً بكلمات وحركات لا يفهمها غيره فى صلاة خاصة به ثم يظل محتضناً سجادته الجميلة أو متأبطها دائماً.. يناجيها ويتحسسها بحب حتى أدهش الجميع فقد كان اسمه «ساجد» وكأن اسمه من (بخته) فى عالم ليس فيه شىء اسمه صدفة كما يحلو للساذجين أن يصفوها، وبينما كان الجميع يشاهدون فيلماً لجاكى شان فى التليفزيون القديم صاح باقى إخوته أنه يشبهه كثيراً.. ظل يتأمل تلك الوجوه المطلة من الشاشة المشوشة، التى تشبهه كثيراً دون إخوته المختلفين عنه.. ربما تكون تلك هى عائلته التى سافرت بعيداً كما أخبرته ماما الكبيرة، بعد أن أودعه عمه فى هذا المكان على وعد أن يزوره كل أسبوع ولكنه لم يفعل أبداً.. تمر الأيام متشابهة وعقله مكبل بقيود ذلك العدو الغامض الذى يمنعه من مواكبة نمو جسده وقلبه الذى كان يوزع الحب والسعادة على الجميع.. لم يكن يتوقف عن إضحاك الحزين ومداعبة المهموم برقصات البراءة وأغانيها وكأنها مهمته فى الحياة، ليلتقط تجار المشاعر السلعة الرابحة لجلب التعاطف والأموال.. وتأجيل ما يحتاجه الصغار الضعاف من ضرورات الكساء والدواء.. وفى ليلة استيقظ الجميع على بكاء «ساجد».. فقد أصابته النوبة اللعينة مرة أخرى.. وقلبه الصغير لم يعد قادراً على الصمود أكثر من ذلك، أفاق فى حجرة بيضاء على وجوه لا يعرفها.. شعر بغربة وخوف لم يهدأ حتى أحضروا له صديقته الوحيدة سجادته الخضراء.. أعلن الطبيب ضرورة إجراء العملية الجراحية المؤجلة لقلبه الصغير التى تشكل مع باقى الأعراض متلازمة مرضه الذى ولد معه وكأن الآلام لا تأتى فرادى.. استسلمت الذراع الصغيرة لوخزة محملة بسائل سحرى حمله إلى عالم آخر.. وبدأ يرى أشياء جميلة منها نور ساطع.. ماما وبابا ينتظرانه بلهفة تماماً كما تخيلهما.. ألعاب كثيرة وطعام وحلوى وأصدقاء ودودون من كل جانب يرحبون باللعب معه وملائكة يحلقون حوله.. وقد أطلق ذلك العدو الخفى سراح عقله.. ليفهم كل الأشياء.. وتبدلت ملامحه ليتخلص من ذلك الشكل المغولى الذى طالما أحزنه، تعلن حالة الطوارئ فى حجرة العمليات.. يبذلون كل ما يستطيعون دون جدوى.. رحل ساجد.. رحل إلى حيث ينتمى.. إلى عالم الحقيقة.. رحل تاركاً آلام وظلم البشر ولم يتبق سوى شىء يذكرنا بملاك صغير لم نستحق وجوده معنا إنها.. سجادة صغيرة خضراء.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف