مواقع التواصل الاجتماعى نشرت على أوسع نطاق خبراً مفاده أن القاضى الجليل أحمد الشاذلى انهمرت دموعه بعد أن نطق بالحكم الذى أيد حكم محكمة القضاء الإدارى والذى يؤكد أن جزيرتى تيران وصنافير مصريتان.
التقط هذا الخبر الفريق المناصر لملكية السعودية للجزيرتين وصوروا الأمر على أن القاضى الجليل أصدر حكمه استناداً إلى مشاعر «عاطفية»، ولم يلتزم بما يجب أن يلتزم به القاضى من تنحيه كاملة لعواطفه الإنسانية عند النظر فى القضايا التى يتعرض للحكم فيها.
هذه الواقعة استدعت من ذاكرتى وقائع تحشرجت فيها أصوات مذيعات ومذيعين، وأفلتت الدموع من العيون وهم يقرؤون أخباراً أو يحاورون ضيوفاً وتعرضوا للنقد من بعض خبراء الإعلام بمنطق أن على الإعلامى أن يكون محايداً وهو يقرأ الأخبار أو يحاور الضيوف.
قضية تنحية العواطف الإنسانية والحياد لا خلاف عليها سواء فى مجال القضاء أو الإعلام، غير أن الحياد وضبط العواطف الإنسانية لا يمكن أن يكون قيداً جديداً على العواصف الإنسانية للقضاة أو الإعلاميين، فهؤلاء بشر لا يمكن بحال أن نطالبهم «بالتجرد» من العواطف الإنسانية، لكنهم مطالبون «بضبط» هذه العواطف وعدم السماح لها بأن تؤثر على حياد القاضى ونزاهته ولا على تقديم الإعلامى للمعلومة الصحيحة بحياد تام.
القاضى مطالب بأن ينحى عواطفه الشخصية تماماً وهو ينظر فى القضايا ويدقق فى الأدلة الثبوتية وفى المستندات والوثائق التى يقدمها أطراف النزاع ويصدر حكمه بحياد تام استناداً إلى هذه الأدلة والمستندات.
فإذا انتهى إلى حكم يستريح له ضميره أصدر الحكم بصوت واثق، لا يشوبه انفعال عاطفى، وبعد أن ينطق بالحكم مباشرة فله أن يطلق لعواطفه الإنسانية العنان وأن يعبر عن عواطفه الإنسانية والوطنية بحرية كاملة، ولا يعنى هذا مطلقاً أن هذه العواطف كان لها دخل فى مرحلة بحثه عن الحقيقة فى المستندات والوثائق، فهذه مرحلة انتهت.
والأمر نفسه ينطبق على حياد الإعلاميين، مع بعض التيسير الذى تتطلبه طبيعة العمل الإعلامى. فالحياد المطلوب من الإعلاميين لا يعنى أن يتجردوا من مشاعرهم الإنسانية عند تقديم الأخبار أو عندما يحاورون ضيوفهم، الحياد هنا مطلوب فى إطار عدم تشويه الحقائق أو حجب أخبار معينة أو صيغة الأخبار بطريقة توحى للمتلقى بالانحياز إلى وجهة نظر فى موضوعات خلافية، ويتطلب هذا الحياد حرصاً فى «صياغة» الأخبار حتى لا تكون الصياغة معبرة عن رأى فى الأحداث التى يقدم الإعلاميون أخبارها، وأضرب لذلك مثلاً واحداً فى صياغة الأخبار المتعلقة بالصراعات المسلحة فى وطننا العربى.
فالصياغة المحايدة الملتزمة بالقواعد والمعايير المهنية عندما تتعرض لحادثة تفجير «إرهابية» تصوغها على النحو التالى.. «فجر شخص نفسه.. إلخ» أما الصياغة التى تتبناها الجهات التى تستهدف التفجيرات أمنها فيصوغ إعلامها الخبر على النحو التالى «فجر انتحارى أو إرهابى نفسه.. إلخ» فإذا استمعنا إلى إعلام الجهة التى تتبنى هذه الأعمال فسوف نجد الخبر مصاغاً على النحو التالى، «تمكن استشهادى من تنفيذ عملية استشهادية.. إلخ».
الصياغة التى لا تلتزم الحياد هنا مبررة بأن المجتمعات تواجه خطراً رهيباً من انتشار ظاهرة الإرهاب، من هنا فالحياد مرفوض، لأن مصلحة المجتمع تتطلب حشد القوى الوطنية لمواجهة الإرهاب.
وفى حالات الصراعات الدولية فإن الإعلام غالباً ما يتخلى عن مبدأ «الحياد» لأن مهمة الإعلام فى هذه الحالات هى مهمة «التعبئة» الشعبية وإثارة العواطف الوطنية أو القومية للتصدى للخصم.
ويحضرنى فى هذا السياق واقعتان تكشفان غلبة المشاعر الإنسانية فى لحظة فجرت فيها الأحداث أو العبارات المشاعر الإنسانية لإعلاميين فلم يستطيعوا السيطرة على دموع انهمرت من عيونهم وأصوات تحشرجت فلم يستطيعوا النطق بكلمة.
الواقعة الأولى: خطاب عبدالناصر الذى أعلن فيه التنحى عن موقع الرئاسة بعد هزيمة 1967.. كان جلال معوض هو المذيع الذى ينقل الخطاب من مكتب عبدالناصر، وبعد أن أنهى عبدالناصر خطابه كان المفترض أن يعلن جلال معوض العودة إلى الاستوديوهات، لكن جلال كان منخرطاً فى موجة بكاء حادة ولم يستطع أن ينهى الإذاعة الخارجية.
وفى الاستوديو كان يوجد من المذيعين فاروق خورشيد وعبدالوهاب قتاية والسيد الغضبان.. وحاول كل منا أن يعلن العودة إلى الاستوديو أو على الأقل ينطق بالعبارة التقليدية، «هنا القاهرة» لكن أصوات الجميع تحشرجت وخنقهم البكاء، واستطاع عبدالوهاب قتاية بعد جهد أن ينطق بعبارة «هنا القاهرة» هنا كانت العواطف الوطنية والإنسانية تعبيراً حقيقياً عن «واقع» تعيشه الأغلبية الساحقة من الشعب المصرى.
الواقعة الثانية كانت فى لقاء أجرته الإعلامية الرائعة منى الشاذلى مع الإعلامى القدير حمدى قنديل، فى سؤال لها عن مدى استعداد حمدى قنديل للعودة لتقديم برامجه على شاشات التليفزيون المصرى، أجاب حمدى بأنه على استعداد لتقديم برامجه فى بيته الذى تبنى موهبته وهو التليفزيون المصرى دون مقابل ولكن المسئولين فى التليفزيون المصرى لا يريدون ذلك.. عند هذه النقطة تحشرج صوت الأستاذ حمدى قنديل.. وركزت الكاميرا على منى الشاذلى لنراها تغالب دموعها وتحاول التعقيب فلا تسعفها الكلمات.. وبعد أن تمالكت نفسها اعتذرت للمشاهدين لأنها لم تستطع أن تغالب دموعها، يومها كتبت مقالاً فى صحيفة العربى تحت عنوان «دموع منى الشاذلى» أؤكد فيه أن دموع منى الشاذلى فى تلك اللحظة تمثل أبلغ «تعليق» على ما قاله الأستاذ حمدى، وقد حرك هذا التعليق العملى مشاعر المشاهدين بدرجة أقوى آلاف المرات من أية عبارات ورأيت هذا الموقف الإنسانى لا يمكن أن يوصف بأى حال بأنه خروج عن مبدأ الحياد.