د. حسام عقل
لوحة (أبو تريكة).. ودلالة الهزيمة الكاملة ..!
يتنادى العالم كله _ بمشرقه و مغربه _ لتكريم أبطاله و رموزه و صانعي بهجته في كل الأنشطة الحية الثقافية و الاجتماعية و الرياضية . فيبادر إلى منحهم الأوسمة الوطنية ، و تقليدهم الميداليات المتألقة التي تزدان بها الصدور ، و يشارك في مثل هذه التكريمات الوطنية الرفيعة ، أبرز رموز الهرم السياسي في الدولة ، حيث يبادر الملوك و الزعماء و القيادات الكبيرة إلى مباشرة شرف التكريم بأنفسهم ، ضمانا ً لأن تشملهم لوحة العز ، حين يمنحون الكبار دروع التميز و التفوق . و هم _ بذلك _ يسهمون في توطيد معنى القدوة ، و تأكيد دلالة المقابل المعنوي و المادي لمن بذل جهدا ً خارقا ً ، او رسم على الشفاه بسمة انتصار مستحق ، أو رد لملايين الشباب معنى الثقة بالعدالة و الفرصة المتكافئة ، و الإثابة الضخمة لمن نافس في الحلبة فسبق بجهده و عصاميته و تجشمه لآلام الفوز ، دون خداع أو تسلق على كتف أحد ! و حين تضل ميداليات التكريم طريقها ، فتحيد عن النجوم المستحقين _ بحق _ و تذهب إلى الصغار أو حملة المباخر ، أو تذهب الجوائز الإبداعية الكبيرة _ مثلا ً _ إلى امرأة جميلة القوام بسبب ضخامة نهديها لا ضخامة جهدها بالتجاوز للمبدعين النابهين ( الأمثلة معروفة للجميع ! ) ، حين تتكرس هذه المشاهد المخزية ، فإن الأوطان نفسها تضل ، بالتوازي ، و تذهب إلى مساحة التيه و الضبابية و الانتكاس الكامل ، بعد أن تعاملت بجحود رديء مع الجهد العصامي النبيل ، و فضلت التزمير و التطبيل للصغار ! ولقد رأينا _ قبل عامين _ الرئيس الألماني ( يواخيم جاوك ) يهدي أرفع ( وسام وطني ) ، لأفراد المنتخب الألماني الوطني ، واحدا ً واحدا ً ( بما في ذلك الاحتياطيون ! ) على هامش فوز الألمان بكأس العالم ، من خلال عروض مشرفة ، و رأينا في صدارة المشاركين في التكريم _ إلى جوار القيادة السياسية _ المستشارة الألمانية ( أنجيلا ميركل ) ، و حضر التكريم الأسطوري ( جوزيف بلاتر ) رئيس الاتحاد الدولي لكرة القدم _ آنذاك _ و كان التكريم الرياضي الضخم المشهود ، بعد يوم واحد من الذكرى الخامسة و العشرين لسقوط جدار ( برلين ) ، فلم يفرق الألمان بين اهتمام وطني شامل للمنتصرين في المنازلة الكبيرة الذين بذلوا العرق الغزير للوصول إلى منصة التتويج ، و بين اهتمام وطني مستحق هو الآخر بتوحيد الألمانيتين ، فكلا الحدثين في مستوى واحد من الاهتمام و الاحتشاد الواجب بالتكريم . و قد أجمل ( العقاد ) العظيم ، ضرورة التكريم الوطني للمستحقين و النابهين _ في كل الأنشطة _ بقوله : و إذا الحمد فات نابغ قوم فهو موت الباقين لا الذاهبين ! و في إطار معاركها الكرتونية العجيبة / الغامضة ، فضلت السلطة في مصر إحراج نفسها عدة مرات _ دون سبب مفهوم ! _ مع اللاعب صاحب المنجز و الخلق ( محمد أبو تريكة ) ( 1978 _ ..) ، و هي تحاول عبر سنوات أن تفتعل له جناية ، و تختلق له _ من ثم _ عقوبة بأي ثمن ، فيما يعرف القاصي و الداني ، أن ابن قرية ( ناهيا ) بمحافظة الجيزة ، يعاقب على رأيه السياسي ، و يذبح بسكين بارد ، لمجرد اختلافه ( الفكري ) في الاجتهاد في الرؤية ! أو لأنه رفض يوما ً مصافحة وزير _ في أعقاب بطولة إفريقية كبيرة _ حين هاله حجم الدماء المراقة ، أو مساحة الإجراء السياسي الخطير ، الذي لم يتقبله في دخيلة نفسه ، و هو اجتهاد سياسي يحمل خلافا ً ( سلميا ً ) في الفكر ، و ما كان ينبغي أن يقابل بكل هذا الفجور ، و اللدد في الخصومة ، و الإصرار الغريب على حز الرقاب للحظة الأخيرة ! فوجيء الراي العام في مصر ، بإدراج اسم ( أبو تريكة ) _ ضمن ما يقرب من 1538 عنصرا ً _ في قوائم الكيانات الإرهابية ! بما يحمله هذا الإجراء من التبعات الخطيرة على وضعه و أرصدته المالية و ما يستلزمه من إدراجه على قوائم المنع من السفر ، أو ترقب الوصول في المطار ! و انفجرت داخل المصريين ، عاصفة خماسين / وجدانية هائلة ، تجاه الرمز الرياضي الذي أحبته بصدق ، و ارتبطت به وجدانيا ً بشكل تراكمي ، عبر سنوات لم يكف فيها النجم الرياضي الخجول عن إسعادها بالأهداف و البطولات ، و لم يكف معه عن إلهاب أكفها بالتصفيق داخل المستطيل الأخضر الذي لم ينل فيه بطاقة واحدة حمراء عبر تاريخه الرياضي ، أو حتى خارج المستطيل الأخضر حين انحنى يوما ً على حذاء طفل صغير ليربطه ، أو تبادل قميصه بتواضع حقيقي مع اللاعب الصاعد ( عمر عبد الرحمن ) في مباراة فريق ( العين ) ، أو كشف عن قميص يحمل عبارة ( فداك يا رسول الله ) في ذروة أزمة الرسوم المسيئة ، التي تمس النبي ( صلى الله عليه و سلم ) . بدأت السلطة سلسلة الاستفزازات ، بقرار التحفظ على أموال اللاعب الأشهر ، في 31 مايو عام 2015 ، برغم عدم صدور حكم إدانة قضائي ضده _ آنذاك _ و بادر القضاء المصري إلى إنصافه ، بصدور حكم محكمة القضاء الإداري في يونيو 2016 ، بإلغاء قرار التحفظ و كل ما يترتب عليه من آثار . و كان ظننا أن الصفحة قد طويت ، خصوصا ً أن اللاعب فضل عبر سنوات ثلاث ، الابتعاد عن الأضواء تماما ً و الصمت السياسي المطبق ، برغم الحملات الإعلامية المستمرة المجنونة ضده ، مقررا ً _ في المقابل _ أن يتفرغ للعمل الإداري ، بيد أن القرار الأحدث ، بإدراجه في قوائم الإرهابيين ، يثبت بوضوح ، أن السلطة لم تنس معه ما تعتبره ثأرها القديم ! و هذا الروح القائم على المكايدة السياسية ، و التشفي الأسود ، هو جزء من أزمة مصر في الفترة الأخيرة ، أو هو الجزء الأكبر في واقع الأمر من أزمة ، نحاول _ بخلع الأضراس _ عبر سنوات ، تبديد أسبابها بروح المصالحات و الانفراجات الوطنية الصادقة للتغلب على حالة ( انسداد الأفق ) ، التي أوشكت أن تمزق أضلاع الوطن . لم تستطع السلطة _ من خلال أجهزتها و تقاريرها _ أن تقدر بوضوح عمق المساحة التي يستوطنها ( أبو تريكة ) في القلوب مصريا ً و عالميا ً ، و هو الذي كرمته ( الفيفا ) أعلى هيئة رياضية عالمية عام 2016 ، و لم تستطع _ من ثم _ أن تتكهن بحجم الغضب الشعبي العريض ، الذي عبر عن نفسه من خلال مواقع التواصل الاجتماعي ، حيث احتل ( هاشتاج ) : ( أبو تريكة مش إرهابي ) مساحة الإشعارات ، الأكثر تداولا ً عالميا ً على ( تويتر ) خلال دقائق . و كانت الطعنة نجلاء لقلب العصفور الطافر _ أمير القلوب كما سمي _ فلم يستطع ( أبو تريكة ) الظهور على قناة bein sport تعليقا ً على مباراة مصر و مالي ، و انخرط في موجة بكاء حاد ، بما اضطرت معه إدارة القناة ، إلى استبداله في اللحظات الأخيرة ، فحل محله الجزائري ( رفيق صيفي ) معلقا ً على المباراة و محللا ً لها . و بقي سؤال الحكماء في مصر : ( متى ينتهي إشعال الأزمات الكبيرة دون جدوى و الاقتصاد يلفظ آخر أنفاسه ؟! ) في مدخل شارع ( المقريزي ) و بداية شارع جسر السويس ، مدرسة صغيرة ، نمر دائما ً عليها فنجد قبالة بابها _ من الوجهة الأخرى من الشارع _ صورة كبيرة للاعب ( أبو تريكة ) _ أخمن من طريقة رسمها أن التلاميذ هم الذي رسموها _ و قد قام أحد المجهولين يوما ً بتشويهها و محو أجزاء منها . و فوجئت بعد ذلك بأيام قليلة ، بأن التلاميذ _ أو الراسمين _ قد أعادوا رسمها مجددا ً بألوان بهيجة ، و ملامح أكثر تألقا ً و جمالا ً . و بعد صدور القرار العجيب بإدراج ( أبو تريكة ) على قوائم الإرهابيين ، نفذ في قلبي كنصل الخنجر المشهد الجديد ، حيث أتى المجهولون أنفسهم ، بطلاء أبيض كالح البياض لمحو الصورة بتمامها ، و كان واضحا ً من طريقة المحو الهستيري الانتقامي لتفاصيل اللوحة ، أن الذي قام بذلك هم شرطيون أو أمنيون غالبا ً ! و كأني باللوحة الحائرة بين الإثبات و المحو ، تحكي _ في الجوهر _ أزمة الوضع السياسي المصري بنقاء تام ! لم يدر بالفعل من فجروا الأزمة الأحدث مع ( أبو تريكة ) ، الذي انتصرت له مواقع التواصل الاجتماعي ، أنهم ينقلون السلطة من ( نصف الهزيمة ) ، في واقع الأمر ، إلى ( الهزيمة الكاملة ) .. بلا رتوش !