خصب هو عند بعض البشر، منعدم عند غيرهم، متهم بالجنون من قبل آخرين! الخيال ذاك الجزء غير المرئى من العقل، غير الممسوك باليد، بل بالروح والوجدان والمشاعر.
أظنه لمسنى بمس جنونه منذ الطفولة الباكرة، بقصص سندريلا وذات الرداء الأحمر، والوحوش التى تلاحق الأقدام إذا أُطفِئت الأنوار ونام الجميع، ذاك الخيال الساحر الساخر، الذى جعل بساط الريح ممكناً، والتنزه عليه جائزاً جداً، وهو ذاته من ألحَّ علىَّ مراراً: «ترى ماذا ستطلبين من المصباح ومارده فى التو واللحظة؟».
يكبر الخيال معنا وينمو، بَعضُنَا يهذب خياله ويزداد تعقلاً ومنطقية وحكمة، مبتعداً عن الخوارق، وبَعضُنَا ينفلت خياله حد اللا رجعة، مخترقاً حواجز الآمال والطموحات، ومكسراً كل الأسقف والحدود والتعقيدات.
كان لخيالى دائماً معلمون وأساتذة وملهمون، لعل عالم الأحلام كان المدرسة الأولى لتمرين الخيال وصقله ومن ثم أتت أقاصيص الأطفال التى كانت تجعل خيالى دائماً فى حالة استنفار وحماس وتحفز، ثم القراءات والسينما والدراما، وعالم الشعر والكلمة والشعور، ذاك العالم الموازى الذى يطوف بالوجدان ويسافر به، (عائداً أحياناً بدونه، تاركاً إياه فى بلاد بعيدة).
نخلق جميعاً بالخيال مصاحباً لأرواحنا، وهو ما صورته أجهزة السونار المجسمة، من ابتسامات الأجنة أو تعبيراتها الفزعة بداخل أحشاء أمهاتهم، هذا الخيال إما أن يكبر وينمو معنا أو يقهر ويغتال فلا يعود يعمل، كلٌ وحظه من الحياة (فالخيال حياة).
دائماً ما تصورت الخيال ممراً سرياً بين الحياة والعالم الآخر، بين الحقيقة وعالم الغيب، هو التواصل الروحانى مع الأزمنة الأخرى والعوالم الأخرى والأماكن الأخرى، الخيال هو جواز مرورك للكون، دون التوقف عند بوابات الحدود!!! وقواعد الفيزياء والكيمياء والتبخر والانصهار.
نبهنى خيالى يوماً لوجوده، لا أدرى كيف، لكننى أدركته داخل روحى، ومن ثم قررت استغلاله للتنعم بمزاياه الكثيرة المثيرة، هكذا أصبح (خيالى) هو بساطى السحرى ومصباحى العفريتى وعصا الساحرات الطيبات، وأصبحت به ملكه وبطله ومحور أحداث الكوكب.
هرولت إلى صديقى (الخيال) هذا كلما اشتدت بى أزمات، أو ضاقت بى الدنيا، يكفى أن أغمض عينى لألحق به، نجوب أرجاء الدنيا، نبعثر العالم وننثر الحب، نتلف خطط هذا ونبطل ألاعيب تلك، نوقف شرور دنيا مسرعة متهورة، نهرب من الحروب والدمار والتطرّف إلى واحات المحبة والسعادة والحياة الطيبة، نسجت من خيالى الأخضر جنات من كروم متدلية، داخل قفر مطبق وغبار صحراء مترامية.
عشت بممالك فارس وقصور روسيا القيصرية، زرت مضارب ليلى العامرية واختبأت بإحدى خيمات قريش، حضرت حفلات تتويج أمراء الدنيا، شهدت على قصص حب لم تحدث، وفسرت أحداثاً لم يكن للمنطق سبيل لشرحها!
استغللت خيالاً يطوع الكلمات ويدخلنى قصور الجنيات، يجعلنى أفك طلاسم الساسة والمعنيين بالبلاد والعباد، ويمكننى من رؤية وسماع ما تعجز عنه أدق الكاميرات وأمهر التسجيلات، إنه الخيال المفتاح السحرى لكل الأبواب والحل لكل الألغاز.
الخيال يجعلك تقرأ الغد وكأنك تقرأ صفحة من كف القدر، يجعلك تفسر ما فات وتتجنب ما هو آت، الخيال يحميك من شرور محيطه، أو يفتح لك آفاقاً متسعة ملونة، بألوان أمانى عظام وآمال كبار.
بالخيال كان الرسم والنحت وكانت الموسيقى، بالخيال أبدع الفنانون داخل السجون ليعيشوا حرية متخيلة، وبانعدام الخيال سجن أحرار طلقاء، لا يَرَوْن خضار الأشجار ولا زرقة السماء. نعم، فالخيال عين ثالثة ثاقبة، ترى عبر الأشياء وتكمل الصور الناقصة، حكايات الخيال لا تنتهى، ولحكايتى معه دوماً بقية!