محمد السعدنى
نحن والحصان: المجد للفكرة
وفي هذا ذكي من يعتبر وغبي من لم يجرب ويختبر، وبهذا المنطق يمكنك الحكم علي ذاتك وما عداك من كيانات وبشر.
آن
الشَجاعَةَ في القُلوبِ كَثيرَةٌ
وَوَجَدتُ شُجعانَ العُقولِ قَليلا
إِنَّ الَّذي خَلَقَ الحَقيقَةَ عَلقَمـًا
لَم يُخلِ مِن أَهلِ الحَقيقَةِ جيلا
أَوَكُلُّ مَن حامي عَنِ الحَقِّ اِقتَني
عِندَ السَوادِ ضَغائِناً وَذُحولا
أحمد شوقي
هي قصة تراثية لكنها لم تعد كذلك، فقد استهلكتها المنتديات الثقافية في الشبكة العنكبوتية وإن احتفظت ببريق الفكرة وعمق المغزي وأصالة الدلالة. تقول القصة: كان لأحد المزارعين حصان عربي أصيل سهي عنه ذات مرة لأحد شئونه، فإذا به يقع في بئر عميقة قديمة جافة، بدأ الحيوان بالصهيل واستمر هكذا فترة ليست قصيرة، كان المزارع خلالها يبحث الموقف ويفكر كيف يستعيد الحصان؟ ولأنه رجل يفتقد حس المبادرة تحكمه الرتابة والقعود ويؤثر السلامة ويعاف المحاولة، فلم يستغرقه الأمر طويلاً كي يقنع نفسه بأن الحصان قد أصبح عجوزاً، وأن تكلفة استخراجه تقترب من تكلفة شراء حصان آخر، هذا إلي جانب أن البئر جافة منذ زمن طويل والأفضل ردمها بأي طريقة كانت، ولعلها اللحظة المناسبة. وهكذا نادي المزارع جيرانه وطلب منهم مساعدته في ردم البئر كي يحل مشكلتين في آن واحد، التخلص من البئر الجافة ودفن الحصان، ورغم أنها فكرة لا إنسانية تفتقد الرحمة وتجافي معاني الأصالة والإخلاص، إلا أنهم بدأوا جميعاً بالمعاول والجواريف في جمع الأتربة والحصي وصغار الحجارة ومخلفات الأشجار وإلقائها في البئر. في بادئ الأمر اختلط علي الحصان ماذا عساهم يفعلون؟ لكنه سرعان ما أدرك حقيقة ما يجري حوله وبه، فأخذ في الصهيل بصوت ممرور يملؤه الألم وتهزه الصدمة. بعد قليل من الوقت اندهش الجميع لانقطاع صوت الحصان فجأة، ولما نظروا إلي داخل البئر صعقوا لما رأوا، فقد وجدوا الحصان مشغولاً بهز ظهره بقوة مع تحريك رأسه لأعلي، فكلما سقطت عليه الأتربة يرميها بدوره علي الأرض ويرتفع فوقها خطوة خطوة لأعلي وهكذا استمر الحال لفترة، كلما ألقوا بالمخلفات إلي داخل البئر وقعت علي ظهر الحصان الذي يهز ظهره بقوة فتسقط علي الأرض حيث يرتفع خطوة بخطوة إلي أعلي. وما هي إلا لحظات وإذا بالحصان يقترب من الحافة وبقفزة واحدة كان قد خرج من البئر وتحرر من جديد.
وهنا عليك أن تستخلص بنفسك من الحكاية عبرتها ومفادها ودلالتها وأن تتدبر الدرس وتعي التجربة، ولعل ذكاء الحصان العربي الأصيل يسعفك كما أسعفه حين خلق من المحنة منحة وحقق من التحدي فرصة، فلتتعلم أن في المبادرة وإعمال الفكرة مفازة بالحياة والبقاء والارتقاء بالمحاولة وعدم الاستسلام وتراكم الخبرة.
أقول لك هذا وأعلم أننا ربما جميعاً بشكل أو بآخر كنا ذلك الحصان ذات مرة، فمنا من استسلم لقدره فواراه التراب وتجاوزته حتي الذكري، ومنا من حاول وبادر وتشبث بالحياة واجترح المستحيل ليبقي، فعاود الصعود واكتشف أن وجوده مرهون بفكره وأدائه وإرادته وقدرته أن ينفض عن ظهره أثقاله ليعلو بها عليها ويبقي.
من عجب أن الحياة حولنا مليئة بمثل هذه الحكايا والدروس والعبر والقصص، وهي غالباً تصدق علي المخلوقات كما تصدق علي الكيانات والمؤسسات والحكومات والدول. وفي هذا ذكي من يعتبر وغبي من لم يجرب ويختبر، وبهذا المنطق يمكنك الحكم علي ذاتك وما عداك من كيانات وبشر.
هكذا تحدثت في ندوتنا الثقافية مع بعض المثقفين والجامعيين من الأكاديميين والطلاب الذين هالني قدر الإحباط البادي في حوارهم وآرائهم ورؤاهم فيما حولنا وحولهم. ولعل كثيرين منهم رغم ذكائهم ينظرون للأمور من منظور أحادي ضيق، وهذا عينه ما نحذر منه في إطار منهج العلم الذي من أسف عودتهم حياتنا العامة معاداته رغم أنهم رجاله ودارسوه والمشتغلون به، لكن الفاصل كبير بين قناعات العلم وممارسات الحياة وضغوطها ومفارقاتها، ما أورث الكثيرين الخوف من القادم والقلق مما هو حاصل والتحسب لمستقبل حسبوه غامضاً موغلاً في الغرابة، ذلك أن الناس أعداء ما جهلوا، ومن أسف فقد صرنا في وقت المجهول فيه أكثر من المعلوم، والمعلوم منه أكثر غموضاً مما خفي والمخفي منه ينبأ بصعوبة التوقع والتحسب والحساب. ليس مقالي هذا في الفلسفة، وإن كانت الفلسفة ركن أصيل في تعاطينا الفكري مع الحياة، لكن ما العمل وقد أعيتنا الحيل في أن نفهم وأن نعطي للآخرين فرصة للفهم والوعي والتدبر. في حوارنا هذا تحدث البعض عن مفارقات حياتنا العامة وغرائبها، عن مشكلة الصيادلة وشركات الأدوية ووزارة الصحة، وعن البوكليت والامتحانات العامة وعن جنون الأسعار وعن حكومة وجودها أكثر ضرراً من تغييرها، وتغييرها مغامرة محفوفة بمخاطر سوء الاختيار وعوار عدم الكفاءة والإصرار عليه. تحدث البعض عن ماسبيرو الذي قتلته الدولة بالترك وراحت تمارس هوايتها في ردم الحفرة فوق رأسه واجتراح جديد يقوم بدوره المفترض، تماماً كما تركنا نظامنا الإداري المترهل وأسندنا مشروعاتنا التنموية لمن يسعفنا. إنها فكرة ∩انسف حمامك القديم∪ حيث كان ينبغي أن تقوم بإصلاحه وإعادة تأهيله من جديد.
وضعوا أمامي كل تخوفاتهم وهواجسهم وإحباطهم، وفي المقابل وضعت أمامهم حكاية الحصان الأصيل الذكي ومبادرته، وآثرت أن أكتبها لعلنا نجد فيمن حولنا من يتلقف الفكرة فتخرجه من الحفرة وتعيده للحياة من الغيبوبة واستمراء الاستنامة والسكرة. والأمر يحتاج شجاعة العقول قبل القلوب، فالمجد للعقل والمجد للفكرة.