الأخبار
عبد الحليم قنديل
عودة مصر لدورها
السياسة العربية لمصر ليست من شئون السياسة الخارجية، بل هي من صلب الاختيارات الداخلية، ونحن نعاني بشدة في الداخل، ونعارض سوء وعطب وفوضي اختيارات الحكم في السياسة والاقتصاد والأمن، بينما السياسة العربية للحكم في وضع أفضل، ولا يصح إنكار أنها حققت وتحقق تقدما ملموسا، وعلي نحو ما يبدو ظاهرا في السلوك المصري بالأزمة الليبية، مع تحسن لا بأس به في معالجات الأزمة السورية، وفي اتباع سياسة مستقلة، تتحرر باطراد من التبعية الآلية القديمة للسياسة الأمريكية، ومن العبودية الكلاسيكية لاختيارات المعسكر الخليجي، وتعود ببطء للعمل بالقاعدة الذهبية، وهي اقتران الوطنية المصرية حتما بالقومية العربية.
ففي ليبيا، يبدو تفوق السياسة المصرية محسوسا، وعن إدراك كامل لأولوية العمق الأمني الليبي، وبخطوات ديناميكية محسوبة، لا تترك الملف الليبي لأحوال الركود في أروقة وزارة الخارجية العليلة، بل جعلته من المهام المباشرة لقلب الدولة الصلب، ولأجهزته الأكثر كفاءة، وللجيش المصري بالذات، وجري تأليف لجنة عليا برئاسة الفريق محمود حجازي رئيس أركان الجيش، ضمت إليها خبرات لازمة، ووضعت تصورا شاملا، تجري علي أساسه حركة يومية دءوب، أعطت القاهرة دور المفتاح والكعبة السياسية لكافة الأطراف الليبية، ولم تكتف السياسة المصرية بما حققته من نجاح باهر في الشرق الليبي، من الحدود المصرية إلي ما بعد غرب بنغازي، ودعم قوة الجيش الوطني الليبي بقيادة الجنرال خليفة حفتر، وتطوير القوة السياسية لمجلس النواب الليبي المنتخب، المقيم في »طبرق»‬، والتحرك النشيط بين قبائل ليبيا الكبري، وبما أدي لضم منطقة مواني الهلال النفطي إلي حوزة أصدقاء مصر، دونما ضحايا كثر أو حروب دموية، وهكذا جري تأمين العمق الليبي المجاور، وهو ما ساعد السياسة المصرية علي قفزة أكبر، وعلي انفتاح إضافي فعال في الغرب الليبي المضطرب، وتحييد وحصار أثر الخصوم الممولين والمدعومين من قطر وتركيا وبريطانيا وأمريكا، واجتذاب عناصر وجماعات عسكرية وسياسية وقبلية مؤثرة، وتشكيل إطار ليبي وطني أوسع، يدعم التحرك المصري، يضم كافة الاتجاهات باستثناء الإخوان والقاعدة وعصابات السلب والنهب، ولا يستثني العمل مع مجلس فايز السراج الرئاسي، ولا مع المبعوث الدولي مارتن كوبلر، وبما جعل غالب الأوراق الليبية في يد القاهرة، ومكنها من التقدم إلي »‬تعريب» متزايد للأزمة، وفتح السبل لانفراج مدروس، تقوم فيه مصر بدور القيادة، وبتعاون ملموس مع شركاء الجوار في الجزائر وتونس.
وإلي الشرق في سوريا، لا تبدو السياسة المصرية علي حالتها المتطورة في الملف الليبي، وإن كانت نجحت في تجنب الأسوأ، وابتعدت بوعي عن وحل التورط مع أقطاب الخليج المهزومين، وبعد أن أنفقوا مئات المليارات من الدولارات علي جماعات الإرهاب، ثم خسروا الجلد والسقط، وجرت هزيمتهم بصورة منكرة علي مسارح الحرب الأهلية السورية، وتنكرت لهم أمريكا المنسحبة من الملف السوري بعد تكثيف التدخل الروسي، وباعتهم تركيا إردوغان مقابل كسب العطف الروسي، فيما بدت مصر مؤهلة للعب دور بعد خفوت صوت المدافع، فقد احتفظت القاهرة بروابط وصل محسوسة مع دمشق، وأقامت صلات مؤثرة مع الفئات القومية في المعارضة السورية السياسية، ولم تجعل همها في بقاء أو زوال شخص بشار الأسد، بل في حفظ ما تبقي من كيان الدولة السورية، وفي دعم عملية إعادة تأهيل وبناء الجيش السوري علي أسس وطنية لا طائفية، وفي التصميم علي سحق جماعات الإرهاب من »‬الإخوان» حتي »‬داعش»، وفي تطوير علاقات التوافق مع روسيا ودورها الحاكم، وفي حفظ »‬شعرة معاوية» مع إيران وجماعاتها، وكلها عناصر تؤهل القاهرة للعب دور يليق بوزنها التاريخي، وقد آن الأوان لتصرف مصري مخطط في سوريا، وعلي طريقة الدور المصري الممتاز في الأزمة الليبية وتطوراتها.
يبقي، أنه علي مصر أن تغادر حذرها المرضي، و»التلبك المعوي» والعقلي الذي يسم سياستها العربية أحيانا، وعلي طريقة الموقف المهين غير المدروس في قرار إدانة الاستيطان بمجلس الأمن، وقد سحبته القاهرة قبل أن تعود للموافقة عليه، وهذه سلوكيات لا تليق في لحظة حرجة تمر بها المنطقة، يعاد فيها تشكيلها، وصياغة الأدوار فيها، وهو ما لا يصح أن تغيب عنه مصر، أو أن يضيع جوهر سياستها في »‬تهتهات» دبلوماسية بائسة، فعلي مصر أن تطرق الحديد وهو ساخن، ليس بالتورط في حروب وتكاليف فوق الطاقة، بل بسياسة ناصعة لا التباس فيها، تعيد دور القاهرة كعاصمة أولي للعرب، تنتصر لقضايا الأمة العربية وإعادة بناء دولها الوطنية.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف