د. نصر محمد عارف
العمران ...مسئولية الجميع
تزامن الغزو السوفيتى لأفغانستان مع قيام الثورة الايرانية عام 1979، وكانت هذه السنة بداية لعملية عفوية أو مخطط لها لاستهداف المجتمعات فى العالم الاسلامى، من خلال تفريغ الكتلة السكانية من أى قيمة نوعية أو كيفية، ومن ثم مصادرة المستقبل بعد تشويه الأجيال التى من المفترض أن تقوده، وذلك من خلال خلق الظروف الموضوعية التى تؤدى إلى توطين الصراعات العنيفة بين مكونات المجتمع الواحد، سواء على أسس دينية أو عرقية أو جهوية وإقليمية. يشهد التاريخ أن دولاً عديدة دخلت هذه الدوامة الدموية العنيفة، ولم تخرج منها الى اليوم، من أفغانستان وباكستان والعراق والجزائر والسودان، وأخيرا سورية واليمن وليبيا ونيجيريا ومالى..الخ.
تلك الصراعات كان من أهم نتائجها افقاد المجتمعات التى قامت فيها قيمة الانسان، وتحويل الكم السكاني؛ الذى يتزايد عددياً الى ركام من الفائض البشري؛ الذى يمثل عبئاً حضارياً واقتصادياً وانتاجياً على دوله؛ من خلال افقاد أجيال الشباب فرص التعليم والصحة والتربية الثقافية؛ التى تجعلهم مواطنين صالحين قادرين على تحمل مسئولية تنمية مجتمعاتهم وتحقيق أهدافها- بل ان الأمر قد تطور لتحويل قطاع كبير من الأجيال الشابة الى معاول هدم وتدمير وتخريب للحاضر والمستقبل والماضى أيضا. هذه الصراعات ذات المظهر السياسى هى فى حقيقتها حروب ديموغرافية استهدفت المجتمعات، وهنا لا نملك الا اثارة السؤال من خلال ضرب المثال:
أولاً: مثلت أفغانستان مختبراً أو مشتلاً لاعداد أدوات تفكيك المجتمعات الاسلامية، استطاع فيها صاحب الرؤية الاستراتيجية البعيدة استخدام وتوظيف أصحاب الرؤى الضيقة القصيرة، فقد نجح الأمريكان فى توظيف دول وحركات وايديولوجيات اسلامية واستغلال تفكيرها الغرائزى، وفيضانها العاطفى المعادى للشيوعية من أجل خلق كيان شيطانى تم غرسه فى أفغانستان، ومنها انتشر الى جميع بقاع العالم الاسلامى. فى أفغانستان تم انضاج التجربة ومن ثم تصديرها، فتم القضاء تماما على الامكانات البشرية لأفغانستان، ونشأت بعد ذلك أجيال لا تعرف الا القتل والخراب والحرق والدمار، ولم تعد دولة أفغانستان تمثل رقما فى أى معادلة، وصار غالب سكانها خارج التاريخ والحضارة لا يمثلون الا نماذج للتخلف والرجعية واضطهاد النساء وقتل الأبرياء.
ثانيا: باكستان والهند بلد واحد من حيث السكان والدم والتاريخ، انقسم على أسس دينية فقط، فأخذت الباكستان بعض المسلمين من الهند وبقى فى الهند مثلهم، ومن يدرس وضع مسلمى الهند ومسلمى باكستان يجد فروقاً هائلة؛ فقد لحقت بباكستان تحولات جعلت الكتلة الديموغرافية فيها مصدر عجز وتخلف، بينما كان مسلمو الهند مصدر تطور وتقدم وثقافة وفنون..وهنا يثور السؤال عن سبب هذا التحول الضخم فى نصف قرن فقط، والاجابة أن باكستان خضعت لحروب ديموغرافية ممتدة؛ حولت الكتلة السكانية من قوة تنمية وطاقة انتاج، الى آلة حرب وانقلابات، وتطرف دينى وارهاب طائفي، وكانت أكثر تلك الحروب الديموغرافية تأثيراً فى الفترة التى تحولت فيها باكستان الى أداة لهزيمة الاتحاد السوفيتى فى أفغانستان.. وهنا تحول الارهاب العابر الى أفغانستان الى ارهاب مقيم فى باكستان، ومنذ بداية ثمانينيات القرن الماضى الى اليوم، وباكستان فى حالة توقف حضارى شبه تام، فقد تم تدمير جيل كامل فى فترة الجهاد الوظيفى ضد الروس، وهذا الجيل العنيف الانتهازى فاقد القدرات أنتج أجيالا بعده أكثر سوءاً وعنفاً، لذلك لا يمر شهر دون تدمير أوتفجير طائفى أو قبلى، وأظن ما حدث فى باكستان سوف يتكرر فى تركيا التى لعبت نفس الدور فى سورية، وتحولت الى معبر للجهاد الوظيفى ضد ايران وحزب الله والروس.
ثالثاً: الجزائر والعراق دولتان نفطيتان، تملكان قدرات بشرية هائلة، أخرجت عقولاً جبارة فى مختلف التخصصات، كانت جامعات هاتين الدولتين بالاضافة الى سورية ترفد العالم الغربى بأفضل العقول العربية الماهرة، تم شن حروب ديموغرافية على الجزائر أولا فى عشرية الأرهاب فى تسعينيات القرن الماضي، فتحولت بلد المليون شهيد التى ألهمت أحرار العالم، وكانت أيقونة الثورات على الاستعمار، تحولت الى بلد الميلون ذبيح على أيدى الجماعات الاسلامية؛ التى استلهمت النموذج الأفغانى؛ بل كانت تلبس الزى الأفغانى، وفقد الجزائر أجيالا من البشر المبدعين، وكذلك العراق التى تم تدمير قدراتها البشرية عبر ثلاثين عاما متواصلة من الحروب على الانسان فتحولت الدولة التى كانت أول من تخلص من الأمية والفساد الى الرقم الأول فى الأمية والفساد، وسورية تسير فى نفس الطريق.
هذه نماذج تبين لنا من خلال التجربة التاريخية أن هناك أهدافاً خافية علينا خلف من نراه من ظواهر، وما يرفع فيها من شعارات، أهم هذه الأهداف هى:
أولا: تفكيك المجتمعات فى الدول الاسلامية خصوصاً السُنية منها، وذلك من خلال تشويه البنية الديموغرافية، ومصادرة المستقبل من خلال القضاء على جيل كامل، ودفعه الى التطرف والعنف والارهاب، ومن ثم تحويله من كونه عامل بناء وتنمية وتطوير وتقدم الى معول هدم وتدمير، وهذا الجيل كفيل باخراج أجيال متتالية أكثر منه تخلفاً وعنفاً وتدميراً.
ثانيا: أن هذه الحرب الديموغرافية على المجتمعات السنية من باكستان حتى نيجيريا ومالي، ومن الشيشيان الى الصومال ترتبط بالتحولات الديموغرافية فى العالم الغربي، والتوقعات بالتراجع الشديد فى أعداد السكان فى الدول الغربية، والخوف من فيضان بشرى من الجنوب، واذا كان من الصعب القضاء كميا على أعداد هائلة من السكان، فانه من السهل جدا تحويل هؤلاء السكان الى ركام رقمى لا قيمة له، ولا يمثل تهديداً مستقبلياً.
ثالثاً: لعبت الدول الطائفية مثل ايران دوراً فى هذا الصدد من خلال تدمير المجتمعات السنية فى الدول التى تقع ضمن رؤيتها الامبراطورية، فمارست هذه الحروب الديموغرافية عليها من حيث الكم بالتهجير القسرى، والتغيير الديموغرافي، ومن حيث الكيف بالقضاء على أجيال من الشباب، وتحويلهم الى التشرد والجهل والتخلف فى الدول التى نجحت فى تفجيرها مثل العراق وسورية واليمن.
وهنا نستطيع أن نخلص الى أن حروب العراق وسورية واليمن سوف تستمر لانها تحقق أهدافاً ديموغرافية لايران، قد يكون منها استنزاف السعودية وتعطيل خطط التنمية خصوصاً فى مجال التعليم.. نحتاج الى رؤية جديدة قبل فوات الأوان.