الأهرام
صلاح سالم
زمن ترامب السياسى.. من الفكرة إلى «التويتة»
قد يختلف المفكرون فيما بينهم على صعيد عمق التحليل، أو فى درجة التمرد على المألوف، كما يختلف الأدباء فى مساحات الخيال، أو فى القدرة على السرد، ولكن يبقى لكليهما، المفكر والأديب، حق الإدعاء بأنه مهموم بالإنسان، أو معنى بالحقيقة، حسب أى تصور لها، ناهيك عما هو مؤكد من جد واجتهاد وعكوف يفرضه كتابة أى نص ولو كان سيئا، فالسوء على هذا المستوى يعكس تراكما يتطلب جهدا ووقتا.

وفى المقابل لا يملك مدون التويتة ولا كاتب البوست شيئا من ذلك على الأرجح، فلا هو بحاجة إلى خيال إبداعى خصيب، ولا عقل تحليلى عميق، ولا اجتهاد إنسانى دءوب. ربما كان هذا أو ذاك مهموما بقضية ما، ولكن اهتمامه بها يأتى على طريقته الخاصة جدا، والانطباعية تماما. لقد حررت وسائط التواصل الاجتماعى الإنسان من ديكتاتورية المعلومات، ووضعته على ناصية فضاء سيبرانى يبدو فيه فاعلا وليس فقط منفعلا، مصدرا للرسائل وليس فقط متلقيا، ولكن الرسائل تلك طالما بدت منفلتة من أى تصور موضوعى يقارب مفهوم الحقيقة.

كان التاريخ قد عرف مرارا، منذ عصر القبيلة والقرية ثم المدينة الصغيرة، فالكبيرة وصولا إلى زمننا الحديث، حكاما قادوا مجتمعاتهم فى كل آن بقوة فكرة ما، سواء كانت دينية أو مذهبية أو عرقية أو حتى خرافية، فكان لزاما على أحدهم أن يطرح أفكاره على رعيته، وأن يبرر لهم لماذا هى أكثر مشروعية من أفكار الآخرين، ولماذا حكمه أكثر أخلاقية أو فاعلية عما سواه من قادة مبرزين، سياسيين أو عسكريين، فإن لم يستطع التبرير والإقناع تعين عليه القسر والإرغام. لم تكن الأفكار دوما تقدمية، ولا كانت القيادة بالضرورة إيجابية، ولكنها فى كل وقت عبرت عن حقيقة ما اتسمت بالصلابة والواقعية.

فى نهاية عصر الفكرة ولد الأدب السياسى ودار الجدل حول دور «الإنتلجنسيا»، أى الطبقة المثقفة القادرة على نشر الوعى الثورى وقيادته. كما ولدت التنظيمات الطليعية / الحزبية القادرة على تسلم السلطة حال نجاح الثورة كما كان اليعاقبة إبان الثورة الفرنسية، أو البلاشفة إبان الثورة الشيوعية. أنتج هذا العصر مستبدين كبارا من فراعنة وقياصرة وخلفاء وملوك، كما أنتج مصلحين ومؤسسين وفاتحين كبارا.. منهم من أسس الدول وعمَّر المدن، ومن خرَّب هذه وأحرق تلك، وعمم الخراب على الجميع، وصولا إلى النازية والفاشية والستالينية، التى ربما كانت هى آخر حماقات عصر الفكرة.

منذ السبعينيات، على الأكثر، أصبحنا فى عصر الصورة، ولم تعد الأفكار الكبرى مهمة للقائد السياسى فالمهم هو حسن عرض وترويج المتاح منها. لم تعد الأفكار تقاس بعمقها بل بمساحتها أى حاصل ضرب طولها فى عرضها، وعندئذ صار العالم مسطحا كبيرا يزداد اتساعا دون عمق.

أتى هذا العصر بقادة مراوغين، طالما كانت وعودهم أكبر منهم، وأحيانا كان للرجال المحيطين بهم سطوة عليهم أكثر من سطوتهم هم على الجماهير. فقد أصبح الكوافير صانع الصورة الحلوة، والمصور البارع صاحب اللقطة الأخاذة، والمخرج التليفزيونى البارع فى الإيحاء والتلوين، فاعلين سياسيين، كونهم صناع الطلة الأخيرة التى يتجلى بها الزعيم، وبها يكسب القلوب ويدير العقول، فيصوت النساء للزعيم الوسيم، ويتحمس الشباب للزعيم المقدام، ويبدى الكبار احترامهم للزعيم الحكيم، رغم أنه قد لا يكون وسيما ولا مقداما ولا حكيما من الأصل. وربما كان السيد أوباما آخر حكام عصر الصورة، فلا تقدميته كأسود أفادت السود ولا تسامحه الذى أبداه إزاء المسلمين قلل من مآزقهم، ولا تعاطفه البدئى مع الفلسطينيين حل قضيتهم، ولا ثقافته وصورته كخطيب مفوه صانع أحلام كبيرة فى تغيير أمريكا والعالم كانت كافية لصنع هذا التغيير، فلم يتغير إلا هو نفسه، عندما بدا عجوزا بطيئا عاجزا عن ملاحقة عالمه وليس تغييره.

فى الزمن الراهن، حيث التويتة والبوست صارا سيدين للموقف، يبدو الأمر أكثر عبثية، فقد مات المؤلف كليا وليس فقط إكلينيكيا، واستأسد القارئ حسب رولان بارت. تراجعت القيادات وتقدمت الجماهير، ولأن الجماهير الغفيرة لا تكترث بالأفكار فقد صارت المشهدية سيدة الموقف، وهو ما أدركه السيد ترامب على الأرجح، فصاغ مشاهد عديدة مستفزة ودرامية، تخيلنا أن استفزازيتها سوف تهزمه، فإذا بدراميتها تنتصر له؛ ذلك أن وعى الأولى يتطلب عقلا نقديا لم يعد قائما لدى جماهير واسعة صارت تقتات على لاعقلانية ما بعد حداثية، تتغذى بدورها من جسد الحقيقة نفسها. أما الثانية فلا تحتاج إلى أكثر من عقل غريزي، يفكر بما يرغب، حيث يغيب العقل الجمعى خلف أهوائه، غير المسئولة، ويمارس مغامراته غير المحسوبة، فى زمن ما بعد الحداثة. هنا لا يكمن الخطر فى سياسات بعينها، قد تبدو للبعض سلبية، كشفت عنها تصريحات الرجل قبل انتخابه رسميا، مثلما وشت بها تويتاته التى لم يتوقف عن كتابتها منذ انتخابه قبل شهرين، ليخاطب بها دولا ويهدد شركات ويطرح سياسات، ولكن الخطر الحقيقى يكمن فى اللايقين السياسى الذى يصاحب ذلك القادم من عالم المجهول رغم كل ما دار حوله من جدل، داخل أمريكا وخارجها، فكل شئ مع ترامب يبدو ممكنا ومستحيلا فى الوقت ذاته!، وتلك مشكلة كبرى ستواجه عالمنا المضطرب، الذى صار معرضا للمزيد من الشكوك فيما يحتاج إلى القليل من اليقين.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف