عبد الجليل الشرنوبى
وقالت الأمطار لـ «ترامب» نعم !
فى الرواية التالية تتكرر الأحداث عبر الزمن مع تغيير طفيف فى التفاصيل، رغم اختلاف أبطال الحكاية لغة وديانة، وتقول الحكاية إن حاكماً خرج للصيد، قد يكون ملكاً، أو سلطاناً، وربما إمبراطوراً، أو رئيساً، أو وزيراً أو محافظاً أو عمدة، المهم أنه صاحب سلطة وخرج مع حاشيته قاصداً الصيد، أما الحاشية فالكل فيها خاضع لسلطان الحاكم ويستوى فى ذلك الوزراء مع عالم الدين، الذى قد يكون شيخاً أو قساً أو حَبَراً أو كاهنا.
ولأن كراسى الحكم تملك سحرها الذى يسلب الإنسان إيمانه بنقصِه، ليُقنعه بأنه قد بلغ حد الكمال، ولأن للحكم سندته وحاملى مباخره الذين يقتاتون على مائدة أطباقها تتسع كلما أقنعوا الحاكم بالكمال، فإن الحاكم حين خرج للصيد قرر أن يبارى أحد أتباعه فيه، فكان أن صوب التابع تجاه طائر على ارتفاع قريب يطير فأوقعه، فتبارى الأتباع من رجالات الحاشية مؤكدين قرب الهدف وكبر حجمه وتقليدية التصويب الذى يمكن أن يقوم به أى مبتدئ، ثم راحوا واحداً تلو آخر يطالبونه بأن يتابع الحاكم وهو يصوب ليتعلم كيف يكون الصيد؟.
ولأن الحاكم يوقن أن سلطانه يتجاوز كل مهارات الصيد والقنص، صوب بغير اكتراث أو تركيز نحو طائر يحلق بعيداً، انطلق السهم أو الرصاصة لافرق-، المهم أنه انطلق من بين يدى الحاكم ووفق رؤيته، فكان أن طاش التصويب وراح الطائر يحلق مبتعداً، وعندها ران الصمت على الحضور، وعجزت الألباب عن تبرير خطأ التصويب، حتى قطع عالم الدين شريط الصمت صائحاً (سلمت يمينك يا مولانا الحاكم، سيشهد التاريخ أن معجزة جديدة أجراها الله على يديك، فالطائر يحلق وهو مقتول)!، وهكذا تعالت هتافات الحاشية بحياة الحاكم بينما أياديهم تتمسح به لتنال من بركاته الربانية التى يمنحها لهم وهو لا يخفى ابتسامته.
إنها الحكاية أو النكتة التى كانت أول ما يتجسد فى خلفية المشهد الأسطورى التى أخرجت به الإدارة الأمريكية حفل تنصيب سلطانها الجديد (الرئيس دونالد ترامب) وسط المطر المنهمر من سماء يناير واشنطن، ليهب أحد القساوسة مؤكداً (علامة فى الإنجيل لمباركة الرب للحاكم نزول المطر)، ويصفق الحضور بينما (ترامب) يمنحهم بركاته عبر نظرات ضاحكة!.
وهكذا وبيقين عقدى مسيحى (قالت الأمطار لترامب نعم)، تماماً كما حدث فى استفتاء التعديلات الدستورية (مارس 2011م) عندما خرج علينا شيوخ التنظيم الإخوانى والمتحالفون معه بيقين عقدى إسلامى (وقالت الصناديق للإسلام نعم). وتماماً كما حدث فى عام 2000 عندما أفتى الحاخام (زلمان ملميد) بأن مصير رئيس وزراء الكيان الصهيونى السابق (باراك) سيكون (إلى جهنم إذا انسحب من القدس أو الضفة الغربية)، وهى الفتوى التى أيدها الحاخام (إبراهام شابيرا) وزاد عليها (إهدار دم كل سياسى إسرائيلى يدعو أو يعمل أو يؤيد الانسحاب من القدس وغزة وغيرهما)، فى حين اتهم الحاخام (مردخاى إلياهو) (باراك) بخيانة الدين اليهودى معتبراً أن من يقول إن أجزاءً من أرض (إسرائيل) تعود للعرب (يكفر بالله) وهو ما يعنى أن (الحاخامات قالت لإسرائيل نعم)!.
إنها نماذج واحدة تتكرر بآليات مختلفة عبر التاريخ بغض النظر عن الديانات وصولاً إلى واقعنا ولو كان فى المساحة متسع لأمكن ذكر نماذج أخرى تاريخية ومعاصرة لكل الأديان، حيث تقرر منظومات الحكم عالمياً أن تستدمج الدين ضمن آلياتها للسيطرة على الشعوب، باعتباره (أفيون الشعب).
لذا لم يكن مستغرباً أن يخرج علينا القيادى الإخوانى عالم التاريخ الإسلامى الدكتور جمال عبد الهادى أحد مفتى التنظيم إبان حكمه لمصر وفى أثناء تجمع رابعة العدوية حاملاً وحياً سماوياً جديداً للشعب الإخوانى مفاده (أنه رأى رؤيا بمجرد انتخاب مرسى رئيساً للجمهورية دخل فيها الرسول صلى الله عليه وسلم إلى مكتب الإرشاد وقت الصلاة فقدمه المرشد للإمامة فرد عليه المصطفى من اليوم يؤمكم الدكتور محمد مرسي)، كان ذلك تأصيلاً شرعياً يؤكد أن (السماء قد قالت لمرسى نعم)، ولكى يصمد أعضاء التنظيم فى ميدان اعتصامهم بعد ثورة 30 يونيو خرج علينا من جديد ليؤكد أن رؤيا تقول (إن جبريل اصطحب الملائكة ليكونوا بين المعتصمين فى رابعة)، وهكذا (قالت السماء لاعتصام رابعة العدوية نعم).
يستخدم الاستبداد عالمياً الدين، بعدما ينتزع عبارة (كارل ماركس) من سياقها ليختصروها استخداما فى (الدين أفيون الشعوب)، رغم كونها فى سياق نصها (الدين هو آهة المضطهد، هو قلب عالمٍ لاقلب له، إنه أفيون الشعب)، تشير إلى قيمة الدين للشعوب التى نالها اضطهاد القوى العظمى وقتها والتى كانت تعتمد تجارة الأفيون واحدة من أدوات سيطرتها وتربحها.
إن النظام العالمى القائم يتعامل مع الشعوب باعتبارها (أبو العلا) فى رائعة المخرج صلاح أبو سيف (الزوجة الثانية)، وعلى الشعوب أن (تَنْطّاع) دونما أى شكوى أو تذمر، هكذا يوصيهم كل علماء النظام العالمى بصوت الشيخ حسن البارودى (وأطيعوا الله والرسول وأولى الأمر، يا شعوب يا كافرة يا عديمة الدين)، وهل هناك شعب على البسيطة يمكن أن يعارض إرادة حاكمٍ أمطرت من أجله السماء ليقول المطر لترامب نعم!