الوطن
حسن ابو طالب
«ترامب» والقدس.. من الانحياز المراوغ إلى الانحياز المفضوح
رغم التحذيرات التى انطلقت من جهات ودول ومصادر مختلفة، يبدو الرئيس الأمريكى «ترامب» عازماً على نقل سفارة بلاده إلى القدس تنفيذاً لما وعد به أثناء حملته الانتخابية، ويبدو أيضاً أنه لا يدرك التبعات التى يمكن أن تنتج عن مثل هذا الموقف. وليس جديداً القول إن «ترامب» يجهل طبيعة العلاقات الدولية والدور القيادى الأمريكى الذى حافظ عليه الجمهوريون والديمقراطيون مع اختلافات بسيطة فى الأداء والأولويات، وهو دور كانت فيه واشنطن، ورغم انحيازها إلى أحد أطراف أى أزمة دولية أو إقليمية ما، فلم تكن تخسر تماماً كل صلاتها وتفاعلاتها مع الطرف الآخر فى تلك الأزمة، حتى ولو كانت هذه الاتصالات عبر وسيط. ويعد الدور الأمريكى بالنسبة للقضية الفلسطينية خير تطبيق لهذه الاستراتيجية فى إدارة أزمة دولية ممتدة عرفت تعرجات كثيرة ما بين الحرب والتسويات السياسية والجمود واللامبالاة والأنشطة الدبلوماسية الكثيفة التى لم تخلُ من انحيازات مباشرة وفجة لصالح إسرائيل.

ومع ذلك ظلت اتصالات واشنطن قائمة مع الأطراف العربية المعنية، بما فى ذلك الطرف الفلسطينى نفسه، بل إن العرب فى مجملهم يؤمنون بأن الدور الأمريكى لا يمكن الاستغناء عنه إذا كانت هناك إرادة دولية وأمريكية لحل وسط تاريخى يغلق ملف الصراع العربى الإسرائيلى، أو بالأحرى يضع التفاعلات العربية الإسرائيلية على مسار آخر غير مسار الصراع المباشر المتضمن احتمال الحرب والمواجهات العسكرية.

ومعروف أيضاً أن الرئيس الأمريكى الجديد يجهل إلى حد كبير تماماً تاريخ وتطورات أبرز الأزمات الدولية والإقليمية التى تلعب فيها الولايات المتحدة دوراً مهماً فى إدارتها والسيطرة على تفاصيلها، وبما لا يُخل أو يؤثر سلباً على المصالح الأمريكية بأى شكل كان. وهو جهل يؤدى بصاحبه إلى العناد والتمسك بمقولات غير دقيقة والسعى إلى تطبيق خيارات غير مدروسة جيداً، ومن ثم يزداد الوضع سوءاً وتعقيداً، بدلاً من محاولة تفكيك ما فيه من تعقيدات سابقة.

وبناءً على ما ظهر من أسلوب الرئيس «ترامب»، وميله الدائم إلى المواجهة بدلاً من البحث عن حلول والسعى إلى احتواء الأطراف الأخرى، وبدلاً من الاستماع إلى النصائح المستندة إلى خبرة تاريخية ومعرفة عميقة بالحدث، علينا كعرب أن نتوقع مفاجآت كثيرة ومواقف غير عقلانية فى السلوك الأمريكى تجاه القضايا التى تُعد من صميم المصالح العربية الجماعية، وعلى قمتها القضية الفلسطينية.

ورغم بعض التضارب وغموض بعض تصريحات «ترامب» الأخيرة حول تنفيذ وعده بنقل السفارة الأمريكية إلى القدس، كذلك ما جاء فى شهادة ريك تيلرسون، المرشح وزيراً للخارجية الأمريكية، أمام الكونجرس، حين قال إن تل أبيب هى عاصمة إسرائيل، فمن الصعوبة بمكان تصور أن «ترامب» سوف يؤجل قرار نقل سفارة بلاده، أو أنه سيتراجع عن الأمر تماماً؛ لأن ذلك سيعرّض مصداقيته للتآكل السريع، وبالتالى يصبح السؤال ماذا بعد تلك الخطوة الخطيرة؟

بداية لا بد من التذكير بأن نقل السفارة الأمريكية إلى القدس قد يأخذ أشكالاً عدة، منها انتقال بعض أعمال السفارة من تل أبيب إلى أحد المبانى المؤجرة فى القدس الغربية أو الشرقية، مع بقاء السفير الأمريكى رسمياً فى تل أبيب، على أن يكون له مكتب فى المبنى التابع للسفارة فى القدس ليذهب إليه بين الحين والآخر. وهناك صيغة النقل الكامل للسفارة إلى القدس، خاصة الشرقية، كما يريد رئيس الوزراء الإسرائيلى، بنيامين نتنياهو، وحكومته اليمينية المتطرفة. ووفقاً للصيغة الأولى يمكن لـ«ترامب» أن يدّعى الأمر ونقيضه فى آن واحد، فيقول للإسرائيليين إنه أوفى بوعده ويقول للعرب والمتعاطفين مع القضية الفلسطينية إنه لم يغلق الباب تماماً أمام أى مفاوضات فلسطينية إسرائيلية تهدف إلى صياغة حل تاريخى يكون من بينه حسم هوية القدس. وغالباً سوف يرضى الطرفان الرئيسيان فى القضية بمثل هذا التفسير المُخادع على أمل أن يتم تغيير هذه الخطوة لاحقاً كل حسب ما يصبو إليه.

أما فى حال نقل السفارة بكامل أنشطتها إلى القدس الشرقية، فسنكون أمام تغيير جذرى فى طبيعة الدور الأمريكى وفى مسيرة المفاوضات المعلقة فى الهواء. فبالنسبة للدور الأمريكى سيتحول من الانحياز المراوغ إلى الانحياز المفضوح، وسيكون من الصعوبة بمكان قبول أمريكا كشريك فى صنع تسوية تاريخية مفترضة؛ لأنها بذلك أنهت مبدأ أن التفاوض دون شروط مسبقة ودون تغييرات على الأرض المتنازع عليها هو الذى سيؤدى إلى تسوية مقبولة. فالانتقال إلى القدس الشرقية يحسم، من وجهة نظر إسرائيل وواشنطن فى عهد «ترامب»، مصير هذه المدينة المتنازع عليها باعتبارها عاصمة موحدة للدولة اليهودية، وبالتالى فلن تكون مشمولة فى أى مفاوضات مقبلة، وذلك على عكس النقل الجزئى المشار إليه سابقاً. وحتى المفاوضات نفسها فى ظل هذا التطور الخطير فلن تكون مقبولة من جانب العرب والفلسطينيين؛ لأنها ستعنى فى هذه الحالة قبولاً بخروج القدس مسبقاً من عملية التفاوض، وبالتالى انتهاء حل الدولتين، وهو أمر يعنى أن على الفلسطينيين ألا يطمحوا أبداً فى دولة مستقلة قابلة للعيش والاستمرار بجوار الدولة الإسرائيلية، بل عليهم أيضاً أن يتخلصوا من كافة حقوقهم المشروعة فى دولة معروفة الحدود وعاصمتها القدس، خاصة الشرقية. وبالنسبة للاجئين الفلسطينيين فعليهم أن يذوبوا فى البلدان التى هم فيها الآن، أما الذين يعيشون فى الأراضى المحتلة، فى الضفة الغربية تحديداً، فلن يكون أمامهم سوى العيش بلا هوية قومية، وهو أمر يستحيل تصوره، وبالتالى سيكون النضال المفتوح هو الخيار الوحيد أمامهم.

وبالقطع ستكون هناك مظاهر احتجاج شعبى فى العديد من الدول العربية والإسلامية ضد الخطوة الأمريكية حال حدوثها، وسوف تأخذ وقتها وربما تهدد بعض مصالح الولايات المتحدة، وهو ما قد يوفر لـ«ترامب» سبباً آخر للتمسك بآرائه السلبية ضد المسلمين فى داخل أمريكا أو خارجها. أما التصرف العربى الجماعى فسيكون فى حده الأدنى، والمرجح أن تظهر تحذيرات رسمية للشعوب العربية ألا تنظر للأمر باعتباره نهاية التاريخ، وأن الضرورة تقتضى أحياناً التكيف مع تطورات خطيرة مثل نقل سفارة أمريكا إلى القدس، انطلاقاً من ضرورة التعامل مع واشنطن وإعطاء فرصة للإدارة الجديدة لفهم طبيعة القضية الفلسطينية. وعلى الذين يرون ضرورة عقد قمة عربية لمناقشة التداعيات الخطيرة للموقف الأمريكى، فلا داعى لمثل هذا الطموح رغم أهميته، فحال العرب يغنى عن أى شرح.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف