جمال سلطان
في ذكرى ثورة يناير المجيدة
هذا يوم من أيام مصر العظيمة يصعب أن يغيب من ذاكرة أجيال مقبلة ، وليس الجيل الحالي فقط ، هي مشاهد ثورة شعبية لم تعرفها مصر ولا العالم من قبل بتلك الضخامة والإصرار والعفوية والروح الإنسانية العالية ، طوفان الملايين الذي يجتاح الشوارع ويسكن الميادين الكبرى في القاهرة والمحافظات أذهل العالم ، وكان رئيس أكبر دولة في العالم ، الولايات المتحدة ، يقضي ساعات أمام الشاشات يتابع هذا الحدث المبهر وكذلك وزيرة خارجيته وقيادات بالكونجرس ، وتصريحات كثيرة ومستفيضة من رؤساء حكومات ورؤساء دول في أوربا والعالم تتحدث بانبهار غير عادي بهذا الذي يشاهدونه في القاهرة ، كانت مشاهد ميدان التحرير أكبر من كونها ثورة شعبية في مصر ضد نظام الطاغية حسني مبارك وأجهزته القمعية ، كان المصريون يردون اعتبارهم أمام العالم ، بقدر ما يبهرونه ، وبقدر ما يعترف رئيس وزراء دولة أوربية كبيرة بأنه يتوجب أن يتعلم أبناء بلده من المصريين ، كانت ثورة كرامة لمصر وشعبها وتاريخها ومكانتها وحضارتها وإنسانيتها ، كانت أياما كما الحلم في روعتها ووهجها ، بدا أن وطنا بكامله فتح رئتيه على آخرها لكي يتنفس ويتنسم عبير الحرية ويصرخ في كل اتجاه غير مصدق أنه استعاد كرامته واستعاد إنسانيته واستعاد وطنه واستعاد دولته . ثورة يناير حدث غير عادي في تاريخ المنطقة بكاملها وليس فقط في تاريخ مصر ، وحتى عندما كان أبناء ثورة يناير يتصارعون سياسيا على الغنيمة قبل أوانها ويتفرقون ويتراشقون بالاتهامات ، وحتى عندما كانت بعض التصرفات تكشف عن مراهقة سياسية ، كان كل ذلك يختفي في زخم المليونيات المتتابعة ، وفي ظل هذا الوهج والتيار الشعبي الهادر كان أنصار النظام السابق الذين استفادوا من وجوده وانتفعوا من فساده ، وكانوا كثرا ، كانوا يستخفون حياء وخجلا من المشهد الثوري العظيم ، وبعضهم تقمص شخصية الثوري ليتطهر من تاريخه المظلم ، وبدا كل شيء في مصر كأنه يتخلص ويتبرأ من ركام مرحلة كئيبة ومظلمة في تاريخه ، حتى إعلام السلطة صحافة وتليفزيونا ، فلا صوت يعلو على صوت هذه الثورة المباركة ، رغم أنه ـ عمليا ـ لم تكن تملك سلطة ولا أدوات سيطرة ، إلا سلطة الضمير وأدواتها الأخلاقية والقبول الشعبي الطاغي لها ، وتفاعل كل خلايا المجتمع معها ، حتى أبناء الشرطة ذاتها فيما بعد . نظام مبارك انهار فعليا قبل تدخل الجيش ، وقد انحاز الجيش للثورة فعلا في نهاية الأمر ، لأن جزءا من فساد مبارك كان يضر بالجيش ، ضمن إضراره بكل مؤسسات الوطن ، وخاصة تخطيطه لتوريث الحكم لابنه ، وضربه الأجهزة الأمنية بعضها ببعض ، وتسليط بعضها على بعض ، وحياد الجيش في الثورة كان يكفي لنجاحها ، وعندما انتصرت استعصت على عمليات الترويض التي حاولها المجلس العسكري ، وإن كان قد استفاد كثيرا من تباعد الرؤى بين مكونات الثورة ، وغياب قاعدة الإجماع الوطني حول رؤية ومشروع وقواسم مشتركة ، لكي يفرض كلمته في النهاية أو السيناريو الذي رغب فيه . لم يبق من الثورة الآن إلا نص في الدستور ، وغلق محطة مترو ميدان التحرير في الخامس والعشرين من يناير كل عام ، كاحتياط أمني خشية أن يمتلئ الميدان من جديد ، وأبعد من ذلك لا شيء ينتمي إلى ثورة يناير وأهدافها ومبادئها في الواقع العملي ، وفي ظل القلق المتنامي من السلطات الحالية من "خيال" يناير ، والفزع من إفلاته من السيطرة ، بدأت السلطات تستعين تدريجيا بأدوات نظام مبارك وحتى بوجوه نظام مبارك ، وتمت تسوية معظم ملفات رجال مبارك ، وعادت كل الممارسات البغيضة السابقة إلى ما كانت عليه ، بل ربما كانت أسوأ في كثير من الحالات . هزيمة ثورة يناير كانت لأسباب داخلها هي ، فقد انكسرت من الداخل أولا رغم استعصائها طويلا على ضغوط ومحاولات ترويض من خارجها ، افتقادها للحصانة الذاتية ، وضعف الخبرة ، والانقسامات الحادة بين مكوناتها وفشل الجميع في احتوائها ، وهرولة كل كتلة سياسية وراء سراب اغتنام مصالحها في فرصة تاريخية ، قبل أن تعرف أنها سراب ، وغياب التوحد والامتزاج الذي مثل أهم قوة للثورة وميادينها وأهم عوامل انتصارها ، كل ذلك سهل انكسارها وهزيمتها ، لكنها تبقى روحا حقيقية نابضة في مصر حتى اليوم ، تشعر بها دائما ، ويدرك الجميع أنها غيرت كثيرا في وجدان المصريين وفي وعيهم وفي طموحهم وفي إرادتهم ، وهذا ما يجعلها مصدر إلهام دائم للأجيال الجديدة ، لانتزاع مستقبل أكثر رشدا وحرية وكرامة لبلادهم ، والمؤكد أن الجيل المقبل ستكون أمامه دروس التجربة الأولى واضحة ، وبالتالي طريق النجاح أكثر وضوحا .