نظمت مكتبة الإسكندرية، الأسبوع الماضي، مؤتمرها الثالث في موضوع التطرف، والذي اختارت له كعنوان لهذه الدورة: "العالم ينتفض.. متحدون في مواجهة التطرف".
والحقيقة، فإنَّ هذا العنوان رغم ما يحمله من دلالات فهو يحمل أيضًا الكثير من الاستفزازات. فالعالم ينتفض فعلًا، لكن بأي آليات؟ وفي أي اتجاه؟.
الواقع يقول إنَّ العالم ينتفض فقط بآليته العسكرية ومقاربته الأمنية لمواجهة التطرف والإرهاب. في 2001، وبعد أحداث 11 سبتمبر، قادت الإدارة الأمريكية حربًا ضد القاعدة، وقسّمت العالم إلى "مع" و"ضد".
وكلنا يعلم ما خلفته هذه الحرب من دمار وشتات وصراعات طائفية كانت هي النواة الأولى لظهور تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق"، قبل أن تستغل هذه الأخيرة حالة التشرذم التي تعيشها المنطقة، وتتمدد في سوريا، وتخلق لها مبايعين وموالين في مصر وليبيا وتونس واليمن وغيرها، ليتحرك العالم، مرة أخرى، لمواجهة هذا المد الإرهابي، معتمدًا أساسًا على ماكينته الحربية التي ستزيد من شروخه، وتدخله، مرة أخرى، إلى عوالم من الظلم والظلام.
أما الجزء الثاني من العنوان: "متحدون في مواجهة التطرف"، فدعوني أتساءل، هل نحن كصناع قرار، وكمؤسسات دينية، وخبراء استراتيجيين، وأمنيين ومفكرين وتربويين ومثقفين.. إلخ، متحدون فعلًا في مواجهة التطرف؟ هل نحن نمتلك رؤية موحدة واستراتيجية شاملة يتداخل فيها ما هو سياسي واجتماعي وديني وثقافي ونفسي وبيئي..؟ هل هناك تنسيق بين مختلف الجهات والأطراف من أجل تبني خطة واضحة تقوم عليها قرارات، مهما كانت جريئة أو صادمة، لكنها تبقى مدروسة وتعالج الظاهرة في العمق ومن كل النواحي؟.
ما أريد قوله، هو أن ظاهرة التطرف هي ظاهرة معقدة ومتداخلة، ورغم كل الدراسات والأبحاث التي أنجزت في هذا المجال، إلا أننا لازلنا ندور في نفس الحلقة المغلقة. نحن نعلم أن هناك أزمة فكرية، ونعلم أن هناك تهديد أمني رهيب، ونعلم أن هناك أعداد متزايدة من شباب هذا العالم الذي اعتنقوا الفكر المتطرف، لكن لازلنا عاجزين عن مواجهة هذه المتغيرات وإيقاف هذا المد، في الوقت الذي تقول فيه كل التنبؤات أن القادم أسوأ، وأن دائرة التطرف ستتوسع أكثر وستسقي الكثير من الدماء هذا الكوكب.
العالم دخل مرحلة التطرف الداعشي، بكل ما يطرحه من أسئلة وإشكاليات معرفية وفكرية وسياسية كثيرة، ونحن نحاول أن نرد عليها يجب أن نأخذ بعين الاعتبار أن هذا التنظيم ليس شيطانيًا ولم ينزل علينا من السماء، بل هو انعكاس لما نعيشه من حالة ازدواجية وفوضى وخواء فكري مقترن بفراغ سياسي واضطراب إقليمي غير مسبوق.
يجب أن نعترف أن ما يعانيه العالم بشرقه وغربه من تطرف، هو رد فعل طبيعي لتراكم التشدد والظلم والسياسات الاستعمارية والاقصائية عبر السنوات. وإذا كان الاعتقاد السائد هو أن الشباب المسلم هم من ينجذبون لهذا الفكر، فالواقع يقول إنَّ الفكر الداعشي أخذ يخترق ثقافات مختلفة، وقد نجح أحيانًا في جذب فتيات وشباب غير مسلمين، ما يعزز فرضية أن الأزمة عالمية وتمس شريحة الشباب في العالم ككل.
ومع صعود المقاتلين الغربيين، بشكل غير مسبوق، تحول السؤال من "لماذا يكرهوننا؟"، إلى "كيف جندوا شبابنا؟". فقدرة الفكر المتطرف على تجنيد الشباب، باتت تقض مضاجع صناع القرار. ومما يقلق هذه الدوائر تطور الخطاب التواصلي الجذاب الذي يستخدمه هذا الفكر للترويج لنفسه وتسويق نشاطه، وتنوع استراتيجيته تبعًا لكل بيئة يستهدفها. وكذلك الإمكانيات التقنية والمالية التي تتيح له الإطلالة على كل البيئات التي يجد فيها أرضية خصبة لكسب المزيد من المناصرين وعلى رأسهم، أبناء الجيلين الثاني والثالث في الدول الغربية من الذين يواجهون مشكلات مع الاندماج، أو خاب أملهم بالثقافة الغربية التي يعيشونها.
ففي غفلة من التاريخ، جاء تنظيم "داعش" ليطرح نفسه كطرف قادر على وقف اضطهاد السنة في العراق، أو بأنه المدافع عن "المظلومين والمهمشين"، وأنه الطرف القادر على هزيمة "الصليبيين"، وإرهابهم في عقر دارهم، مثلما حدث في فرنسا وبلجيكا وأمريكا وألمانيا، وأنه القادر على انصاف الجيلين الثاني والثالث في دول المهجر. فالفكر المتطرف دائمًا يستثمر في واقع سياسي واستراتيجي معقد ومتداخل، بشكل يمنحه الدليل والبرهان على صدق روايته، التي يغري الكثيرين لتبنيها وحتى الموت لأجلها.
لا بد في المواجهة التي تخوضها الدول اليوم ضد التطرف والإرهاب، أن تدرك أن المعركة طويلة ولن تكون يسيرة، وأن المقاربة الأمنية لن تقضي وحدها على الظاهرة. فلا بد من أحداث تنسيق بين كل الجهات المعنية، ولا بد من تقويض وتجفيف الحاضنة الفكرية للتطرف والصانعة للإرهاب. فلا يكفي شن حرب عسكرية على التنظيمات الإرهابية أو تفكيك خلاياها، لكن الأهم هو استيعاب مشاكل الشباب النفسية والاجتماعية والاقتصادية، وإعادة إدماجهم داخل مجتمعاتهم لمنحهم الشعور بالانتماء والهوية، فالقضاء على بن لادن لم يقض على القاعدة، والقضاء على "داعش" لن يقضي على الإرهاب ولا على الفكر المتطرف.