الأهرام
محمد ابو الفضل
صوت مصر الغائب
فى كل مرة أحضر مؤتمرا بالخارج، أجد صوت مصر مختفيا أو موجودا على استحياء، بينما هناك جنسيات عربية وأوروبية وأمريكية وإفريقية وآسيوية تتسابق فى تمثيل بلادها وتبييض وجهها، وتعبر عن رؤى وأفكار تؤكد حضورا لافتا.
كنت أعتقد أن هناك تغييبا متعمدا للصوت المصري، لكن عندما بدأت أتابع القضية وأحاول تفسيرها وفهم أبعادها، وجدت أن العيب فينا، فمن يرشحون للحضور من قبل بعض الجهات معظمهم من معدومى الكفاءة أو يمتلكون قدرات علمية محدودة، ومن الطبيعى أن يكون الوجود باهتا، كما أن الدعوات توجه أحيانا لشخصيات ثقافية وفكرية كبيرة ولها وزن علمي، لكن غالبيتهم لا يذهبون ولا يرشحون من ينوب عنهم، والأدهى لا يعتذرون للجهات الداعية، ما يترك انطباعات بالتعالى والغطرسة والاستغناء، فلا توجه لهم أو لغيرهم دعوات مرة أخري.

فى أحد المرات، كنت مدعوا فيها بصفتى الصحفية للمتابعة والتغطية فى مؤتمر علمى كبير بدولة خليجية، ولم أجد باحثا أو كاتبا مصريا، فسألت الجهة المنظمة عن مبرر لهذا الغياب، فقيل إن هناك دعوة رسمية وجهت لخبيرين مرموقين فى العلوم السياسية، ولم يتلقوا من أى منهما إجابة بالقبول أو الاعتذار أو ترشيح من يمثل كليهما، وبالتالى لم يتم توجيه الدعوة لآخرين.

وقتها استشعرت مدى أهمية الحضور المصري، عندما وجدت مشاركين من دول مختلفة يأتون على ذكر مصر، سلبا أو إيجابا، وتقريظا وتقريعا، فكان من الواجب أن أكون مشاركا فاعلا، وقمت صدفة، وزميل آخر كان مدعوا أيضا بصفته الصحفية بمهمة الرد على ما تم طرحه من انتقادات ومعلومات غير دقيقة.

هذه المسألة تكررت بصور وأشكال مختلفة، وأناقشها هنا لأهميتها وخطورتها، حيث يجرى طرح قضايا فى صميم المصلحة المصرية والترويج لشائعات ومغالطات متعددة، بعضها متعمد ومعظمها عن جهل، فتخيل أن هناك من يتحدث بثقة عن وجود مخيمات لاجئين فى مصر، تستوعب ملايين المواطنين من فلسطين وسوريا والسودان وليبيا واليمن، فما هو شعورك عند تسويق هذه المعلومة الخاطئة؟ وما تداعياتها عندما يتلقفها البعض ويرددونها فى كتاباتهم وأحاديثهم على أنها حقيقة؟.

الأشد خطورة أن هناك حديثا مكررا ومملا يُحمل مصر مسئولية حصار غزة، وأنها السبب الرئيسى فى عدم إعمار القطاع، دون أن يتطرق أحد لدور إسرائيل المجرم والمعرقل وتدخلات ومناورات جهات إقليمية متباينة وأخطاء بعض الفصائل الفلسطينية، كما أن ثمة كُتابا من دول عدة يتحدثون عن الأوضاع فى سيناء كأنها على فوهة بركان ولا توجد سيطرة مصرية كاملة على جميع ربوعها، وأن الحرب ضد الإرهاب أمامها شوط طويل، والأجهزة الأمنية غير قادرة على كبح جماح المجرمين والإرهابيين.

هذه النوعية من الأكاذيب يتم ترويجها على نطاق واسع فى ندوات ومؤتمرات وحوارات تعقد فى دول كثيرة، ولا تجد من يفندها أو يرد عليها، لأن الصوت المصرى أصبح غائبا عنها، ما يمنح البعض فرصة لقلب الحقائق، ويفسح المجال لدوائر معادية لالتقاطها والعمل على ترسيخها فى أذهان الحضور، الذين يملك عدد منهم منابر إعلامية مؤثرة، تتولى نشر البضاعة الفاسدة.

ربما تقود الصدفة وحدها بعض الزملاء للرد على ما يتيسر من افتراءات، فما بالنا إذا كان الغياب ظاهرة عامة؟ الأمر الذى ينتقص من وزن وقيمة الدولة، بل يحمل انعكاسات سلبية تمتد روافدها إلى قضايا محل اعتبار بالنسبة للأمن القومي، وتكون مهمة التصويب وإيجاد صورة إيجابية عملية فى غاية الصعوبة، لأنها تنطوى على جهد مزدوج أو له وجهان، أحدهما محو الانطباعات الخاطئة القديمة، والآخر تحسين الصورة الذهنية والوصول إلى الدرجة التى تعبر عن مصر الجديدة الطموحة.

المقال ليس من بين أهدافه الحديث عن مؤامرات أو سوء نية من جانب البعض، لكن هدفه المناقشة والاعتراف بوجود نقص وفقر وتكاسل وخمول عام فى النخبة، وأحيانا هناك خضوع للمناورة والابتزاز والمجاملة فى التمثيل العلمي، ما يؤدى إلى نتائج كارثية، من اليسير لكل منصف ملاحظتها، ومن السهولة تصويبها، إذا خلصت النيات، وجرى التخلى عن الأبعاد الشخصية، وتعاملنا مع الموضوع باعتباره قضية حيوية، تمس صورة وسمعة ومكانة مصر.

فى مقدمة الخطوات الواجب التفكير فيها، عند من يتحكمون فى زمام الحل والعقد بالبلاد، أن نمتلك رؤية شاملة تعى جدوى القوة الناعمة، وتدرك أهمية الدور الذى تلعبه النخبة فى توسيع حضور ونفوذ مصر، وتعمل على إعادة إحياء هذا المسار، بحسبانه مكملا لمسارات أخري، سياسية وأمنية واقتصادية، ودون نوافذ ثقافية ناصعة ومنابر إعلامية نشطة، من الصعوبة الدفاع عن أى مشروعات إستراتيجية، لأن تصدر الكسالى ومعدومى الموهبة ومن يجيدون فنون النصب والسرقة العلمية والكذب للمشهد سوف تكون له تداعيات سيئة.

وفى الوقت الذى يختفى فيه الصوت الثقافى المصرى بالخارج، تتقدم أصوات من دول عربية، وتحقق حضورا سريعا ولافتا، وتعمل جهات رسمية على رعايته واحتضانه وتطويره، باعتباره رصيدا مهما فى قوتها الناعمة، لذلك من الضرورى اليقظة والانتباه بأن مدح التاريخ والتوقف عند تفاصيله واستدعاء الماضى ووقائعه لن يقيم دولة عصرية لها نفوذ إقليمي، والمشروعات التنموية والتطلعات السياسية الكبيرة، تتضرر ما لم تمتلك أدوات موازية للقوة الناعمة يمكنها الدفاع عنها باقتدار.

يجب أن نعترف بأن الفترة الماضية شهدت تجريفا، أدى إلى ما نحن فيه من خواء، أسهم فى احتضار قوة مصر الثقافية، وهو ما يستوجب إعادة تصويب البوصلة، عبر وضع مجموعة من التصورات والإجراءات وفقا لإستراتيجية تساعد على إحياء فكرة الدور والريادة والقيادة، لأن استمرار الحال على ما هى عليه يدخلنا دائرة النسيان.

ولعل إمعان النظر فى الطريقة التى تدير بها دول صغيرة سياساتها الإعلامية والثقافية يؤكد أن درجة التأثير تتوقف على مدى امتلاك رؤية ومشروع وتصرفات وممارسات علمية، تعكس ما تريد تحقيقه من أهداف، وإذا كان البلد بحجم مصر فالمهمة أسهل، فقط مطلوب إطلاق صافرة البداية بما يتسق مع مقتضيات العصر ومفرداته.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف