القاضي العادل كم يعاني في عمله.. يعاني معاناة ذهنية. ونفسية. وفكرية.. يعاني من كثرة القراءة لخطوط رديئة في أوراق أنفاسها تزكم الأنوف.. يعاني ليقف علي وجه الحق في الأحداث التي تحملها أوراق الدعوي.. تجذبه نحو الإدانة ورقة.. ونحو البراءة أخري.. تتسارع الأحداث إلي ذهنه وفكره بين جذب ودفع.. يعاني نفسيا عندما تكون الأحداث مثيرة للاشمئزاز والشفقة معا.. للاشمئزاز لبشاعة الحدث. وللشفقة للحالة التي عليها المتهم. إذا كان ما ارتكبه لضعف إنساني دفعته الأقدار إليه وما يترتب علي الحكم بإدانته سواء له أو لأسرته ولمن حوله.. رغم ذلك كله فالقاضي يشعر بسعادة غامرة وراحة مطمئنة. عندما يجتهد ليصل إلي نتيجة ترضي نفسه التواقة إلي العدل. والباحثة عن الحق. مؤمن تماما بأن الأحكام بيد الله عز وجل الذي يأمر بالعدل والإحسان.. تعلمت من أساتذتي أن أدعو الله وأنا أتهيأ للجلوس علي منصة القضاء أن يبصرنا بالحق. ويلزمنا به. وتعلمه مني زملائي وتلاميذي الذين عملوا معي.
القاضي يقرأ أوراق القضايا مجردا من كل هوي مبرءا من أي ميل. يتلمس جوانب البراءة التي هي الأصل في الإنسان. فإن لم تكن فالإدانة.. والإدانة درجات فقد يكون المتهم مذنبا بالصدفة. أو يكون مجرما عاتيا في الاجرام يعادي المجتمع. ولا يخشي من الله شيئا. كما قد يكون شابا صغير السن. يضار بوضعه مع المجرمين العتاة. فيخرج من سجنه أشد اجراما. وقد يكون مريضا لا يحتمل سنوات طويلة في السجن. وقد يكون موظفا يفصل من وظيفته لجرم ارتكبه غير قاصد أو متعمد. فينهار بيته. ويلحق بأولاده أذي لا يمكن دفعه علي مر السنين.. وهكذا يتعامل القاضي العادل مع مواد القانون بعقلية متفتحة. وذهن خلاق. وبنفس صالحة مصلحة ولهذا فإن القاضي يلزم أن يكون ذا بصيرة علمية. وقارئا متنوع القراءة. خبيراً بالنفوس وأحداث المجتمع وصوره. ولاسيما القاضي الجنائي متمكن من لغته. مالك لناصية البيان. مستمع جيد. صاحب ذاكرة حديدية لكل ما يقرؤه. ويفحصه في الأوراق. ويسمعه من أقوال الشهود ودفاع المتهمين.. حين تطمئن نفسه ينطق بما انتهي إليه. غير عابئ بلوم اللامين. وبتعليق الغاضبين. واضعا نصب عينيه الرحمة فربنا سبحانه وتعالي وسعت رحمته كل شيء. قال تعالي: "وكتب ربكم علي نفسه الرحمة" وهو الرحمن الرحيم. وهو الغفور الرحيم.
وحين يكون الطعن علي الأحكام وقد يسر القانون طرق الطعن لا يشعر القاضي بغضب. ولا يطرأ في ذهنه أية غضاضة ليقينه أن الشرع وضع درجات التقاضي تحسبا لما قد ينال الحكم من خطأ جاء بعد اجتهاد شجع عليه إسلامنا في القاعدة الشهيرة "من اجتهد وأصاب فله أجران. ومن اجتهد وأخطأ فله أجر" فضلا عن أن الطعن دائما بوجه عام يوجه إلي الأحكام لا إلي شخص القاضي.
وإمعانا في تحقيق العدالة. حرص المشرع علي النص بعدم صلاحية القاضي للفصل في الدعاوي.. بل حتي مجرد سماعها إذا كان بينه وبين أحد الخصوم أو أحدهم قرابة أو مصاهرة سواء له أو لزوجته. أو وكالة له أو لزوجته.. كما أجاز المشرع رد القاضي أي منعه من الفصل إذا كان بينه وبين أحد الخصوم عداوة أو مودة يرجح معها عدم استطاعته الحكم بغير ميل.. ويترتب علي طلب الرد امتناع القاضي فورا عن المضي في نظر الدعوي أو الفصل فيها.
القاضي أولا وأخيرا. بشر يصيب ويخطئ.. والخطأ غير العمدي وارد ولا يحاسب عليه. ولهذا كان القضاء علي درجات لتدارك خطأ محكمة الدرجة الأولي بعرض القضية علي محكمة الدرجة الثانية بناء علي طلب ذوي الشأن. ويكون مجال ذلك كله في ساحات المحاكم. وليس المناقشة في الصحف والإذاعات المسموعة والمرئية.
وعلي مدي عمري القضائي ما رأيت قاضيا وقع في خطأ عمدي لم ينل الجزاء المناسب. إذا إن القضاء هو أبرز الجهات بمصر التي تعمل علي تنقية نفسها أولا بأول. حتي لا يصيبها عطب أو انحراف. بفضل الله تعالي.
إن القضاء المصري هو ركيزة الأمة. وعماد العدالة. وحصن الحق الذي يحفظ لمصر هيبتها وصوتها الطاهر. وفخرها الضارب في أعماق التاريخ.
كان الله في عون القاضي المصري الثابت علي الحق.