بوابة الشروق
جمال قطب
الإسلام كما أدين به - «47»: خير أمة - «د»: خطوة تالية
-1-
انتهينا في المقال السابق إلى التحقق من المصطلح القرآني “خير أمة» واستخرجنا من فقه هذا المصطلح أن “خير أمة» لا تعني غرورا ولا تطاولا ولا سعيا للرياسة ولا قياما بدور الأستاذية. فالرياسة والزعامة والأستاذية أدوار “نفسية» لا يكمل إيمان المسلم حتى يتناساها ولا يقبلها إلا بحدودها وشروطها. وأبرز ما حدود هذه الأدوار أنها أدوار لا ينالها الساعون إليها إلا بإرادة حرة من المتقبلين لها. وأبرز شروطها “تقوى الله» التي لا تعرف الضغط ولا الإكراه ولا العنف، بل تعتمد العلم والصبر واللين والمطاوعة كآليات وأدوات، كما تعتمد الرحمة والعدل والسلام طريقا فضلا عن الخير والمعروف أهدافا أولية وصولا إلى “التوحيد» غاية عليا بشرط حرية الناس في اختيار المرحلة التي يقطعونها في هذا الطريق.

-2-
لكن الخيرية تستلزم خطوتين أساسيتين هما: “البدء بالنفس» فإذا استطاع الإنسان المسلم أن يزكي نفسه ويلتزم المنهج (الدين وأمانته) التزاما يظهر في قدراته على الإعمار والكرامة، فتلك ضرورة ملحة حتى يقتنع الآخرون بجدوى المنهج حتى يقبلوا عليه. وهذا هو المعنى الواضح من قول الله تعالى: ((..أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ..)). فالشدة “قسوة استغناء» و»قدرة تحمل»، كما أن الرحمة قوة إحساس وقدرة عطاء. كما أن هذا هو المعنى المتيقن من قول الرسول صلى الله عليه وسلم: “المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف».. فالمؤمن القوي مؤمن يكفي نفسه ويقدر على إعالة غيره. وإذا أردت ترشيحا لهذا المعنى تجده في القرآن حيث نوع القرآن أنواع القوى إلى قوة ناعمة وقوة خشنة في قوله تعالى: ((..وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِبَاطِ الْخَيْلِ..)). ها نحن أمام مستويين القوة بصفة عامة والقوة الحربية بصفة خاصة. بل إن القرآن أوضح الأثر المطلوب من كل القوى، وهذا الأثر هو: ((..تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ..)) أي تحقيق إغناء النفس لدرجة تحقق الرهبة والاحترام في نفوس الآخرين نظرا لشدة القوة وتنوعها مع التمسك بالسلام والإعمار والتزكية وتجنب العنف والإكراه والحرب. فالقوة التي يعنيها الإسلام قوة الإعمار وقوة الأخلاق وقوة جلب السلام وحمايته وهذا هو أصل الجهاد.

-3-
ومن تحقيق البدء بالنفس أن يستوعب الدعاة غاية الدين ووجته ومقاصده مع معرفة كيف تصاغ الأولويات وكيف تتغير الرتب بتغير الزمان والمكان والمكلف (المخاطب).. فالدين ليس برنامجا يحفظ ويفرض، بل هو “صيدلية زكية ذكية» تصرف الدواء المناسب للداء ولقدرة المريض على تحمله. نعم فالدعاة لابد وأن يعرفوا أن هناك من المرضى من يعشقون المرض ولا يستغنون عنه مثل مرضى الإدمان فلا يفلح الطبيب إذا اتجه نحو السبب فأبعده فجأة عن المريض، بل لابد من “الإحلال والتبديل» بمعنى إيجاد بديل غير ضار مع تقليل الاعتماد على السبب درجة درجة حتى يفيق المريض ويدرك الفرق بين ما استحدثه الطبيب وبين ما كان عليه من إدمان مهلك. وهنا يتذكر الدعاة موادا من الدستور الدعوي تقول: “ليس كل ما يعرف يقال»، “خاطبوا الناس على قدر عقولهم»..

-4-
و«خير أمة» أو «أمة الخير المطلق» لا يمكن أن تغلق حدودها، ولا أن تعتزل الأمم، كما لا تستطيع «أمة الخير» أن تقطع التواصل، ولا تملك التغافل عن الحوار الجدير بالإنصات ((ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ)). وسبل الله واسعة وليست محصورة في التوحيد بل تتسع إلى الخير كله والمعروف كله والتطهر من المنكرات، فمن صنع خيرا فقد اقترب من الإسلام خطوة، ومن أدى معروفا فقد اقترب خطوة، ومن تناهى وتباعد عن منكر فقد فتح طريقه إلى الإسلام. فهيا نتناسى دعاوى التعاظم والغرور ببعض الاجتهادات،وهيا نجعل الأئمة والمرشدين والأساتذة بشرا كالبشر يؤخذ منهم ويرد عليهم، ونتعالى جميعا فوق “الرايات المجتزئة» و»الشعارات الخاصة»، فإن الله جل جلاله وعد بنصر المؤمنين بدينه (نصر الدين) وليس نصر المذهب والجماعة. شتان شتان بين دين عام يظل جميع المنتسبين إليه ودعوة خاصة استخلصها بشر ولم يشعر أنه اقتطع جزءا وترك أجزاء ورأى زاوية وترك زوايا بل بحث مرضا خاصا فاكتشف له دواء ثم لم يشعر هو وأتباع مذهبه أن جعلوا الدواء الخاص دواءا عاما لجميع الأمراض ولجميع الناس وفي جميع الظروف.. ولا يصلح للجميع إلا دين الله وليس اختيارات الإمام.
يتبع
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف