مدبولي عثمان
ثورة 25 يناير وثقافة المعارضة
خرجت في الولايات المتحدة وحدها 408 مسيرات. شارك فيها نحو ثلاثة ملايين ونصف المليون شخص. احتجاجاً علي تنصيب دونالد ترامب رئيسا لأمريكا حتي اعتبرت أكبر مظاهرة في التاريخ الأمريكي. ولم يقتصر الأمر علي داخل أمريكا. بل انطلقت في خارج أمريكا 168 مسيرة احتجاجية منها 20 في المكسيك و29 في كندا. لم يخرج أحد يتهم هذه الملايين بأنها ضد الديمقراطية أو أنها رافضة لنتائج الصندوق الانتخابي. ولم يخرج علي المشاهدين أصحاب الحناجر من مقدمي برامج "التوك شو" الفضائية ليطالبوا بمحاكمتهم بتهمة الخيانة العظمي لأنهم عارضوا توجهات الرئيس وأفكاره.
ما سبق مقدمة ضرورية للحديث عن أهمية الرأي الآخر لأي سلطة حاكمة في أي مجتمع. وللتأكيد علي أن أصحاب هذا الرأي المعارض شركاء أساسيون في الوطن. وأنهم ليسوا أقل وطنية من الجالسين علي مقاعد الحكم. ومن ثم يجب أن تتوافر لهم منابر علنية للتعبير عن آرائهم في إطار من الحرية المسئولة التي لا ترتبط بجهات خارجية. وتلتزم السلطات بحمايتها دون مطاردات أمنية أو سياسية ودون المساس بأرزاقهم التي يقتاتون منها.
فما أحوجنا في هذا الوقت العصيب الذي تمر به بلدنا أن نتعلم ثقافة المعارضة التي تقوم علي ركيزة رئيسة هي الاختلاف باعتباره طبيعة بشرية. فقد خلق الله البشر مختلفين في الأشكال والأحجام والألوان والألسن فقال في سورة الروم الآية 22 "ومن آياته خلق السموات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم" .وخلقهم مختلفين في الجهد والتحمل ولذا قرر القرآن الكريم في سورة البقرة الآية 286 أن الله تعالي لا يكلف نفساً إلا بمقدار طاقتها ووسعها "لا يكلف الله نفساً إلا وسعها".
فما دام الاختلاف وارداً وحاضراً فمن الطبيعي وجود "المعارضة" غير انه ليس من الممكن أن أختلف مع الآخر علي الدوام ولا أتفق معه كذلك علي الدوام. بل أختلف وأتفق والنتيجة الوصول إلي ما فيه صالح المجتمع ككل. ويري الدكتور برهان غليون في دراسته بعنوان "المعارضة السياسية الدور ومصدر الشرعية" أن المعارضة الوطنية الواعية والمنظمة هي ضمان لاستقرار المجتمع وأمنه قائلاً: "إن وجود المعارضة هو التعبير الأبسط عن وجود السياسة ذاتها وهي صمام الأمان الوحيد ضد احتمال تحول النزاعات الداخلية إلي صراعات وحروب.. يرصد في هذا السياق الوضع القائم في العديد من الدول العربية التي استبعدت المعارضة أو تنكل بها حيث تكاد جميع حركات الاحتجاج الاجتماعية تتحول إلي حركات انشقاق عرقية أو طائفية أو عقائدية... ومن ثم فإن السائد فيها هو مناخ المواجهات".
وبمراجعة تطورات الاوضاع بمصر الغالية منذ ثورة 1952 وحتي الآن يتأكد لنا أن عدم وجود ثقافة المعارضة ومحاولة فريق واحد الاستفراد بالسلطة والثروة دون الآخرين كلف المصريين غاليا. فقد تذوق المصريون مرارة الهزيمة في يونيه 1967 رغم معدلات التنمية الاقتصادية العالية. بسبب تحكم فريق واحد في السلطة وعدم استماعهم للرأي الآخر. بل واستهانتهم بالرأي المخالف. وعندما اجتمع المصريون علي قلب رجل واحد. واستشعرنا جميعاً حكاماً ومحكومين المخاطر التي يتعرض لها الوطن. وبذل كل فرد كل ما في وسعه في خدمة بلده تحقق نصر أكتوبر .1973
ومن أهم أسباب ثورة 25 يناير 2011. التي تتعرض للكثير من التشويه في ذكراها السادسة. هو استئثار فريق محدود داخل الحزب الواحد الحاكم بالسلطة وتحالفهم مع أصحاب الثروة فشاع الظلم والفساد. فكان الإقصاء الكامل للمعارضة في انتخابات مجلس الشعب عام 2010 المحرك المباشر للثورة.
في إطار إيماننا بثقافة المعارضة والاختلاف أري ان الهجمة المنظمة علي ثورة 25 يناير 2011 غير مبررة. وأن الذين يزعمون أنها مجرد مؤامرة يرتكنون في رؤيتهم القاصرة علي مشاركة آلاف من الشباب الذين تلقوا تدريبات خارجية أو انخرطوا في منظمات حقوقية تتلقي تمويلات خارجية في إشعال شرارة الثورة. ولكني ومعي غالبية المحللين المنصفين أجزم ان احتجاجات الشباب التي لم يتجاوز أعدادها بضعة آلاف في يوم الثلاثاء 25 يناير 2011 ما كان لها ان تتحول الي ثورة وتنجح في الاطاحة بنظام حكم بوليسي عتيد ما لم ينضم إليها عشرات الملايين من السواد الأعظم من المصريين غير المسيسين. مما أكسب الثورة قاعدة مجتمعية عريضة شملت كافة المصريين بمختلف مشاربهم وانتماءاتهم وتوجهاتهم. وان هذه الجموع خرجت طواعية للبحث عن مخرج بعد أن أصيبت الحياة السياسية بجمود أسفر عن عزوف المواطن في المشاركة. واحتشدت الملايين في ميدان التحرير والقادمين من مختلف المحافظات لمقاومة الطغمة القليلة التي استأثرت بالسلطة والثروة. واستباحت حقوق المصريين الاقتصادية والاجتماعية وأهدرت كرامتهم.
يجب أن نعترف أن أعداء الثورة التفوا عليها ونجحوا في إعاقة أهدافها وساءت الأوضاع لدرجة ان البعض ندم علي قيامها. ولكن الأعداء لم ولن ينجحوا في إجهاضها لأنها كامنة في قلوب وعقول ملايين المصريين الذين يتمسكون بالعيش والحرية والعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية بعيداً عن أي تدخلات خارجية.