عبد الناصر سلامة
مُدلِّك الرئيس.. المهمة المستحيلة
ثار انتباهى أمر مهم لدى قراءة قصة الجاسوسية المتعلقة بالجاسوس المصرى على العطفى، الذى لم يحصل على أكثر من الشهادة الإعدادية، إلا أن إسرائيل أعدته ليدخل القصر الرئاسى فى مصر من أوسع أبوابه، ليكون المُدلك الخاص للرئيس الراحل أنور السادات، وظل فى القصر عدة سنوات، يبعث إلى تل أبيب التحركات داخل القصر بصفة شبه يومية، إلى أن تم القبض عليه فى عام ١٩٧٩، بعد أن تخلى عن حذره، وكثرت سفرياته، وفاحت رسائله، إلى غير ذلك من الأخطاء التى أوقعته فى شراك نديم قلب الأسد، أو العميد محمد نسيم.
قصة الجاسوسية هذه أطلق عليها الموساد الإسرائيلى اسم «المهمة المستحيلة»، ذلك أن وجه الاستحالة والغرابة فيها كان كبيراً جداً، حيث صناعة مُدلك عالمى، أو طبيب شهير، على الرغم من أنه لا يحمل سوى الشهادة الإعدادية، وتبلغ الغرابة والاستحالة مداها، فى أن يكون الأوفر حظاً لدى رئاسة الجمهورية، أى جمهورية، بعد أن تكون شهرته قد بلغت الآفاق، نتيجة ما تم إعداده بشأنه من برنامج دعائى عالمى كبير.
هذا هو الأمر المهم هنا، كما جاء فى القصة نصاً: «إن خطة (إيلى برجمان) ضابط الموساد المكلف بإعداد العطفى، لزرع عميله فى مصر، قامت على تمويل حملة دعاية كبيرة له، وإمداده بمساعدات علمية ومستحضرات حديثة، مع دعوته لمؤتمرات علمية دولية، لتصل سمعته لكبار رجال الدولة، وكان الهدف الأساسى هو الرئيس محمد أنور السادات، الذى كان معروفًا عنه حرصه على أن يكون ضمن طاقمه الطبى مدلك خاص، فكانت الخطة أن يصبح (العطفى) مدلك الرئيس الخاص، ما يعنى أن يكون عميل الموساد داخل القصر الجمهورى مطلعًا بشكل كامل على حياة الرئيس الشخصية. وراقت الفكرة لجهاز الاستخبارات الإسرائيلى، وتم التصديق عليها، وأطلق عليها اسم (المهمة المستحيلة)».
وقد تكرر سفر العطفى إلى هولندا عدة مرات، «خضع خلالها لتدريبات فى أكبر المستشفيات على العلاج الطبيعى، حتى تحول إلى خبير بالفعل فى مجال التدليك، ونجم تحدثت عنه صحف العالم ومصر، وانهالت عليه الدعوات لمحاضرات فى جامعات العالم، ولم يكن كل هذا إلا جزءاً من خطة (برجمان) للدعاية لعميله، حتى يلفت نظر الرئيس، فى الوقت نفسه افتتح أول معهد للعلاج الطبيعى فى مصر، وتقلد منصب العميد، إلا أنه لم يستمر فى منصبه طويلًا، قبل أن يلفت أنظار رئاسة الجمهورية، التى تلقى منها مكالمة وهو بمكتبه بالمعهد تخبره أنه تم اختياره ليصبح عضوًا فى الطاقم الطبى لرئيس الجمهورية، ويصبح صديق كل أفراد العائلة، لتنجح خطة الموساد».
لدينا أيها السادة، أساتذة كبار فى كل المجالات، التكنولوجية، والطبية، والعلمية عموماً، وحتى السياسية والصحفية، إلا أنهم كانوا طوال الوقت مغمورين، على مدى سنوات طويلة، كنا نسألهم عن سر ذلك التقوقع فيما يتعلق بالشهرة، بالقياس إلى هؤلاء من أنصاف الموهوبين، الذين يجدون من الاهتمام العالمى، وحتى الاهتمام الداخلى الكثير والكثير، دون أدنى منطق، فكان الرد الذى لم نستوعبه كثيراً حينذاك: أن الأمر أكبر من ذلك بكثير، الأمر لا يتعلق بالكفاءة، المعايير فى العصور الحديثة مختلفة تماماً، ربما تجد هؤلاء الأنصاف هم الأكثر تردداً على القنوات التليفزيونية، هم الأكثر التصاقاً بالصحف، هم الأكثر علاقة بالسفارات، هم الميسورون مادياً بما يخرج عن المألوف، هم الأكثر تردداً على المطارات والعواصم العالمية.
إلا أن الأمر حين يتعلق بالشهادة الإعدادية يصبح تحدياً غريباً ومدهشاً فى الوقت نفسه، الأمر هنا أصبح قريب الشبه بعلماء الطاقة الذرية، والفيزياء، وحقوق الإنسان، وعالم المال والأعمال، وصناعة الإعلام، وحتى أهل الفن، وجميعها مجالات أصبحت فى متناول الأجهزة المخابراتية الداخلية والخارجية على السواء، قد تجد أحد أنصاف الأطباء يتنقل من مؤتمر دولى إلى آخر، وأحد أنصاف علماء الطاقة يجوب عواصم العالم، وأحد أنصاف الإعلاميين يتنقل من رئاسة صحيفة إلى أخرى، أو من برنامج تليفزيونى إلى آخر دون أدنى مبرر معقول، اللهم إلا اهتمام الأجهزة الأمنية، إن لم تكن أجهزة الداخل فسوف تكون أجهزة الخارج.
نحن هنا لا نتحدث عن صناعة النجوم، التى تلعب فيها شركات الدعاية، أو مؤسسات التدريب المتخصصة دوراً كبيراً. فى حالتنا هذه يمكن أن يأتى دور هذه الشركات فيما بعد، إلا أن الحالة التى نحن بصددها، والمتعلقة بمدلك الرئيس السادات، ينبغى أن نتوقف أمامها طويلاً، ذلك أن الرجل الذى قضت محكمة أمن الدولة العليا بإعدامه شنقاً، وخفف الرئيس السادات الحكم إلى ١٥ سنة أشغالاً شاقة، ورفض الرئيس مبارك فيما بعد العفو عنه لأسباب صحية، لم يكن هو الوحيد فى ذلك الوقت الذى يقوم بمثل هذا الدور فى الأروقة السياسية المصرية، أيضاً هناك بالتأكيد الآن كُثُر فى الأروقة العربية عموماً، مع تقدم مثل هذه الصناعة المخابراتية، التى لا تُخفى إسرائيل تحديداً أنها الأبرز عالمياً فيها.