الأهرام
اسامة الازهرى
أمر يدع اللبيب حائرا
كان العهد بالمؤسسة الدينية الكبرى أن يكون لها السبق في الشأن الوطني، وكانت تبرهن دائما على أن الحس الوطني عندها رفيع جدا، ومرهف جدا، وكانت تسبق الجميع بخطوات واسعة، بحيث يجد الزعماء الوطنيون بعد ذلك بزمن أن الأزهر سبقهم بخطوات، وأنه كان بعيد النظر، مستشرفا للمستقبل، مدركا حجم الخطر مهما كان ضئيلا وخافتا.

إنه عهد وميثاق، وعقد اجتماعي أنضجته الأيام والشهور والأحداث العصيبة، وعركته الشدائد، فما ازداد على مرور الأيام إلا قوة وثباتا، وأدرك معه شعب مصر أن له جيشا علميا ومعرفيا لم يخذله أبدا عبر التاريخ.

لكن الحيرة الكبيرة التي تصيب أي متابع هي أن الأمر لم يعد كما كان، وتحول الأمر إلى استجداء نستجديه جميعا كمصريين من مؤسستنا الكبرى دون مجيب، وأقصد هنا بمؤسستنا الكبرى الأزهر والأوقاف والإفتاء على حد سواء.

لقد ورد في خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في احتفال الأزهر بتوقيع اتفاقية الجلاء في 25 أكتوبر سنة 1954م، في قاعة المحاضرات بالأزهر، قال: (ولا يسعني في هذه المناسبة إلا أن أذكر جهاد الأزهر على مر السنين؛ فقد حمل الأزهر دائما الرسالة، ولم يتخل أبدا عن الأمانة، وكافح كفاحا مريرا في سبيل الحصول على حرية الوطن، كافح الأزهر في أيام الحملة الفرنسية، وقاسى رجاله، وعذبوا وقتلوا وشردوا، واقتحم المحتلون الأزهر، فلم يتأخر الأزهر عن حمل رسالة الجهاد والكفاح لتحرير الوطن وبلاد العروبة والإسلام، واستمر الأزهر يحمل الرسالة حتى سلمها إلى الجيش، إلى عرابي الذي قام متسلحا بروح الأزهر ليطالب بحقوق الوطن.

وما إن دخل الإنجليز أرض مصر حتى حاولوا أن يقضوا على الأزهر ورسالته، كما حاولوا أن يقضوا على الجيش ورسالته وقوته.

واستمر الأزهر يكافح على مر الأيام حتى حمل الأمانة مرة أخرى عام 1919م، وحمل الرسالة، وأرادوا أن يفرقوه شيعا وأحزابا، وأرادوا أن يحطموا الجيش ويحطموا الأزهر).

هذا نص كلام جمال عبد الناصر ونص شهادته لدور الأزهر، وهذا الشأن الجليل والمهيب للأزهر لا يتوقف على شهادة الرئيس عبد الناصر ولا غيره، لأن تاريخ الأزهر أبرز وأضخم من أن يحتاج للتدليل عليه والاستشهاد له.

وأقول: لقد ظلت إدارات الأزهر المختلفة والمتعاقبة عبر تاريخه محافظة على الحد الأدنى لهذا العقد الاجتماعي، لا تنزل عنه، ولا تخل به، نعم يتفاوت الأداء قوة وضعفا باختلاف شخصية من يتولى مشيخة الأزهر، لكنهم جميعا مضوا وما أخلوا بالقدر الأدنى من هذا المستوى من العمل.

إلا أننا شهدنا في الفترة الحالية أمرا عجيبا، وهو أن الوطن يستنجد بالأزهر، ويلح عليه، ويطالبه، ويلمح ويصرح، ويستنهض ويشير، ويتألم ويستغيث، فيبقى الأمر ثابتا عند مستوى واحد من تسيير أموره وقوافله وجولاته وأجنحته في معرض الكتاب، دون القفز إلى مستوى الحساسية والجد والخطر الذي يحيط بالوطن.

أيها الأزهر الشريف -وأنا أخاطب اليوم عددا من رجالك، ولا أخاطب تاريخك المشرف الذي لا يختلف اثنان على عظمته ووطنيته ورفعته- انهض إلى عمل يليق بالتاريخ المشرف، ويسعف الوطن والدين، ويسعف شعب مصر والأمة العربية والعالم في وقت حساس وخطير.

أيها الأزهر الشريف نحن جميعا في خدمتك حتى تنهض بدورك، وليس الأمر انتقادا ولا عتابا، فلا وقت للنقد ولا العتاب، بل هذا وقت الانطلاق والعمل الشاق المضني، الذي تنطفئ به نيران التطرف والتكفير، وينحسر به الشر المحيط بالوطن، وتنطفئ به أفكار الإخوان والدواعش، وتنضبط به أمور الفقه والفتوى، وتنطلق من رحابك أنوار ساطعة تنزل بالأمان والحكمة والسكينة على قلوب شعب مصر العظيم، ويشهد العالم من خلاله دورا مشرفا يليق بمصر وينطلق من أرضها.

أيها الأزهر الشريف! ما الذي تريده حتى تنهض ونحن جميعا مسخرون لخدمتك، هل هي الرؤى والخطط والاستراتيجيات فنوفرها، أو هي عراقيل إدارية وتشريعية فنذللها، أو هي تمويل وإنفاق فنعتصر أنفسنا ونجمعه، أما ماذا؟!

لقد تعودت مصر منك أن تكون أنت السابق، الذي ينذر بالخطر قبل وقوعه، ويحمي مصر منه، وتشعر مصر تجاهه عقب كل شدة بالامتنان والعرفان، لما أظهره من جسارة وبسالة وقوة وشجاعة في الدفاع عن الأم الكبرى، أرض الكنانة، وفي حمل الهموم عنها، وربما أثقلت مصر عليك لكنك أنت جيشها ودرع في وجه تيارات التكفير والتفجير، وأنت عمادها وسندها في اجتياز أزماتها، ولا مناص من العمل من القفز إلى حمل هم الوطن على أكمل وجه.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف