الأهرام
القمص أنجيلوس جرجس
العصر القبطى (1) .. مؤسس الرهبنة فى العالم
يوافق غداً ذكرى القديس أنطونيوس المصرى الذى أسس فكرة الرهبنة فى العالم كله (251 356). وقد يكون هذا مناسباً للبداية فى سلسلة مقالات عن الحقبة القبطية فى تاريخ مصر التى تغطى ستة قرون من تاريخنا. وهى الحقبة التى تربط بين نهاية تاريخ الفراعنة وبين مرحلة دخول العرب لحكم مصر، وما تبعها من تطورات تاريخية وسياسية، يتوالى على حكم مصر ولاة كثيرون من خارج البلاد إلى مرحلة حكم محمد على الذى استطاع أن ينتزع استقلالا ضمنيا من الإمبراطورية العثمانية بالرغم من التبعية الشكلية لها، ثم الدخول فى صراعات الاحتلال الإنجليزى ثم الاستقلال الكامل بثورة يوليو 1952.

والحقبة القبطية هى إحدى سلاسل تاريخنا المتصل وهويتنا المصرية التى بدونها لا نستطيع التواصل مع حضارتنا القديمة فقد ربط البعض بين كلمة قبطى وبين المسيحية فشعروا بأن دراسة الحقبة القبطية ستكون نوعاً من التبشير، بينما ما هو قبطى يعنى ما هو مصري. وهذه الفترة فى جذور تاريخنا لها علامات وتأثير فى حضارات العالم كله، وبالرغم من أنها كانت فترة الاحتلال الرومانى لمصر فإن المصريين استطاعوا أن يحتفظوا بهويتهم أمام الاجتياح والاضطهاد الرومانى لتغيير هويتهم فقد استقبلت مصر المسيحية كإشراق روحى وحضارى وواجهت روما ضد تغيير هويتها فكان عصر الاستشهاد. وعاشت روحانية خاصة فكانت الرهبنة إبداعا مصريا حول الصحارى والجبال إلى حالة إشراق روحى وحضارى.

وبدأت الرهبنة بهذا العملاق الروحى القديس أنطونيوس الذى كان ينتمى إلى عائلة غنية من بلدة تسمى «قمن العروس» بمركز الواسطى ببنى سويف. وكان والده غنياً وله سطوة كبيرة وحين مات نظر إليه القديس أنطونيوس وشعر بتفاهة كل ما فى العالم وقال فى نفسه: «أى نفع للغنى والسطوة وكل شيء سيفنى». فباع كل ما يمتلك ووزعه على الفقراء وخرج ليبحث عن أعماق جديدة للحياة تجذبه السماء والحياة المتجردة من كل ممالك الأرض. وكان حينها شاباً فى العشرين من عمره وكان قلبه يفيض بالحب للـه ويشعر إنه يريد أن يذوب حباً ويطوق نحو الانطلاق من أى قيود ومشاعر خاصة نحو الارتباط الدائم والأبدى بإله صنع كل شيء لأجل الحب وانتظر من البشرية أن تبادله حب فانشغلت بأمور زائلة تافهة، فقرر هو أن يكون النموذج الإنسانى الذى يقدم حياته ذبيحة حب يقدمها للمحبوب. وسار القديس أنطونيوس فى البرارى لا يحمل معه شيئاً سوى قلبه الذى ينبض بالحب وروحه المشتاقة للدخول فى عالم روحانى بلا قيود مادية. وكانت استجابة اللـه لهذا الحب أن أخرج له نبعاً للمياه جوار مغارة الجبل التى سكن فيها. وطيلة عمره المائة وخمسة أعوام لم يقترب منه وحش، ولم تلدغه عقربة أو ثعبان. واجتذب إليه كثيراً من المشتاقين لهذه الحياة حتى شعر بأن له رسالة وهى تلمذة آخرين ليعيشوا هذه الحياة فأسس الحياة الرهبانية فى الصحراء على ثلاثة مبادئ مهمة.

أولاً: البتولية أى عدم الزواج: ولا يظن أحد أن الرهبنة تحتقر فكرة الزواج أو تنظر للمتزوجين بنظرة أقل وإنما البتولية هى شعور الراهب بأنه يريد أن يعطى كل المشاعر وكل القلب للإله الذى أحبه فتصبح الحياة هى عشق إلهي.

ثانياً: التجرد والفقر الاختياري: فالحياة الرهبانية تعنى عدم الامتلاك والاقتناء فيكون مثل الطير الذى يطير فوق الأمور الأرضية كاسراً كل قيود المادة فلا يخشى شيئاً ولا يخاف من شيء. ويوماً ما أرسل إمبراطور روما قسطنطين رسالة إلى القديس أنطونيوس بعد أن انتشرت سيرته وفضائله فى العالم واهتز تلاميذه فرحاً وسروراً بأن الإمبراطور بنفسه أرسل لهم رسالة أما هو فقال لهم بهدوء واتزان: «أتطربون بأن ملكاً يكتب لنا وهو إنسان مثلنا ولا تعجبون بأن اللـه بنفسه أرسل لنا كلماته وكتبه». وفكرة التجرد عاشها كثير من الرهبان متتلمذين على هذا المنهج فآتى إلى مصر ابنا الإمبراطور الرومانى «فلنتنيانوس» (321 375) «القديسان مكسيموس ودوماديوس» تاركين الملك والقصر ويعيشان متعبدين فى صحراء مصر. وآتى أيضاً القديس «كاراس» شقيق الإمبراطور «ثيؤدوسيوس الكبير» (346 395) ليترهب فى برية وادى النطرون. وأتت أيضاً القديسة «إيلارية» ابنة الإمبراطور «زينون» (474 491) تاركة قصر أبيها آتيه إلى مصر لتحيا فى مغارة وتعيش فى بلادنا عابدة ناسكة حباً فى الإله.

ثالثاً: التلمذة: وهو خضوع الشخص لأبيه الروحى ليتعلم منه خبراته الروحية ويأخذ من روحه ويعيش. وكلمة «راهب» مشتقة من «الرهبة» أى الذى يضع اللـه أمامه فى كل شيء ويخاف ويرهب من أى شيء يفصله عنه. وهو تعبير عربى بينما التعبير اليونانى «موناخوس» التى منها الكلمة الإنجليزية «monk» و«الفرنسية moine» وتعنى «المتوحد» أى الذى يعتزل حياة العالم. ولا تظن عزيزى القارئ أن هذا يعنى الانفصال عن الإنسانية وعدم الشعور بهم، فأحياناً يعترض البعض على هذا المنهج قائلين إنه منهج إنسانى سلبي، وهؤلاء يعرفون أن الحياة الرهبانية تضع قوانين للراهب على ضرورة العمل جانب الصلاة، إن كانت الصلاة أيضاً ليست عملاً سلبياً. فبصلوات الأتقياء يحفظ اللـه العالم، فهؤلاء يصلون لأجلنا. ولكن أيضاً الراهب لابد أن يعمل بيديه والقديس أنطونيوس كان يعمل السلال، وكل الرهبان قديماً وحديثاً لهم عمل وينتجون حتى أننا وجدنا فى رهبنة الغرب علماء رهبانا مثل «مندل» وهو أبو علم الوراثة، و»كوبرنيكس» صاحب نظرية مركزية الشمس.

هذا بجانب اهتمامهم بأخوتهم فى الإنسانية وهذا ما حدث فى عصر القديس شنودة فى القرن الخامس عندما أغار غزاة من الجنوب على صعيد مصر وسبوا الآلاف من الشعب، قابل الغزاة وأقنعهم بأن يأخذوا الغنائم ويتركوا النفوس. ثم فتح ديره للمسببين البالغين آلافًا من النفوس ليستقروا هناك لمدة ثلاثة أشهر. كرّس الرهبان وقتهم لخدمتهم. وقام سبعة من الأطباء الرهبان بتضميد الجروح. خلال هذه الفترة مات 94 شخصًا دُفنوا بالدير، بينما وُلد بالدير 52 طفلًا. بهذا يمكننا أن نتصور عدد الضيوف الذين عاشوا فى الدير هذه المدة الطويلة. وتكررت هذه الأحداث كثيراُ عبر التاريخ.

عزيزى القارئ هذا هو جزء من تاريخنا، من روحنا، من تاريخ أرضنا، من نبت هذه الأرض الطيبة خرج إشراق روحى للعالم كله لينشر حضارة من نوع آخر هى حضارة روحية استنار العالم كله بها. وهذا هو أحد عناصر العصر القبطي.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف