لست أذكر القائل: إن علي الكاتب مهمتين: الأولي أن يقول شيئاً. والثانية أن يروي شيئاً. لكنه قول صحيح تماماً. ورغم احترامي لقول بيكيت "ليس لدي شيء أقوله. فأنا الوحيد الذي يستطيع أن يقول إلي أي حد أنني ليس لدي شيء أقوله. أو مضطر لأن أقوله "فإن المقولة/ الدلالة واضحة في أعمال بيكيت. قد تتعدد التفسيرات والتعرف إلي ما يحمله العمل من دلالات مضمونية لكنها موجودة "أذكرك بتفسير نجيب محفوظ لمسرحية بيكيت لعبة النهاية في كتابي نجيب محفوظ: صداقة جيلين" في رسالة من تولستوي إلي مواطنه الروائي الروسي ليونيد أندرييف يشير إلي أنه علي الكاتب ألا يكتب إلا إذا استحوذت عليه الفكرة التي يود التعبير عنها بأحسن ما في طاقته. وألا يفكر حينئذ في شيء آخر غير إجادة التعبير. فلا ينظر إلي ما تضفي عليه الكتابة من شهرة أو مال. وكتب تشيخوف في إحدي رسائله: "دعني أدكرك بأن الكتاب الخالدين أو في الأقل ذوي الموهبة الذين يهزون نفوسنا لديهم سمة مشتركة بالغة الأهمية. هي أنهم يتجهون إلي شيء. وأنهم يدعونك إليه أيضاً. وإنك تحس. لا بعقلك وإنما بكيانك كله. إن لديهم هدفاً. بعضهم لديه أهداف مباشرة. كالقضاء علي الإقطاع وتحرير البلاد. وكالسياسة أو الجمال. أو مجرد الفودكا. وآخرون لديهم أهداف بعيدة كالله. وكالحياة بعد الموت وكسعادة البشرية. وهكذا. وإن أفضلهم كتاب واقعيون يصورون الحياة كما هي. ولكن علي الرغم من أن كلا منهم يستغرقه هدف واحد. فإنك تحس في أعمالهم. لا مجرد الحياة كما هي. بل تحس الحياة كما ينبغي أن تكون وإن هذا ليأسرك. إن للعمل الأدبي استقلاليته. لكن وجود العمل مستمد من المبدع الذي كتبه. من تمايز خبراته وتجاربه وقراءاته وتأملاته ورؤاه. افترض أن العمل كتب نفسه. أو هذا ــ في الأقل ــ ما أتحمس له لكنني لا أتصور أن يصدر العمل عن فراغ. حتي الثمرة المعينة هي ــ في الأساس ــ بذرة معينة. وضعت في تربة معينة. ومناخ معين.. وإلا. فما سر زراعة محصول بذاته في بلد ما. ولا يمكن زراعته في بلدان أخري؟!. وإذا كان رأي بوشكين أن "الفنان الحقيقي يهب نفسه كلها للفن". فإني أجد أن القضايا التي يناقشها الفن ويطرحها. وليس الفن كغاية ترفيه. هي ما ينبغي علي الفنان أن يخلص لها. ولعلي أذكر قول بيرل باك "الفنان اليوم لم يعد يكفيه أن يملك أداة رائعة من الصنعة المكتملة. بل لابد أن يكون لديه شيء جدير بهذه الأداة يعبر عنه". بل إن دعاة الفن للفن يشيرون إلي أنه. "علي الكاتب أن يتحدث عن شيء من الأشياء". وقد أبدي سارتر أسفه علي لا مبالاة بلزاك تجاه أحداث عصره. وعلي عدم الفهم. وعلي الخوف أيضاً الذي أبداه فلوبير تجاه حكومة الكوميونة. فضلاً عن أنه اعتبر فلوبير والأخوين جونكور مسئولون عن القمع الذي أعقب حكومة الكوميونة. لأنهما لم يكتبا حرفاً واحداً.
المسألة ــ في تقدير بريخت ــ ليست مجرد تفسير العالم. بل تغييره. وعلي حد تعبير كافكا فإن رسالة الكاتب هي أن يحول كل ما هو معزول ومحكوم عليه بالموت. إلي حياة لا نهائية. أن يحول ما هو مجرد مصادفة إلي ما هو متفق عليه مع القانون العام "إن رسالة الكاتب نبوية".
بالنسبة لي. فإن الكتابة قضية حياة وليست مهنة. وكما أشرت سلفاً. بدأت الكتابة دون أن أفكر: لماذا أكتب؟.. العقاد يؤكد أن الأديب يكتب لأن له رسالة. ورسالة الأديب هي رسالة الحرية والجمال. قلمه يجب أن يصبح سلاحاً ضد الديكتاتورية والاستبداد. ذلك مجمل ما يجيب به العقاد عن السؤال: لماذا يكتب الأديب؟ يذكرني بأول ما أصدرته من كتب مطبوعة. اسمه "الملاك". من الصعب تصنيفه ككتاب. فعدد صفحاته ست عشرة بالتمام والكمال. فهو إذن أقرب إلي الكراسة أو الكتيب في أفضل الأحوال. محاولة غلبت عليها السذاجة. وارتكزت إلي التقليد. مهدت لها بكلمات مشابهة لكلمات العقاد. وإن لم أكن وقتذاك قد صادفت كلمات العقاد فيما أتيح لي فراءته من كتب. أما الكلمات فهي: الحق والحرية والحب ومع أني لا أذكر الظروف التي كتبت فيها هذه الكلمات. ولا بواعث كتابتها. فضلاً عن أني لم أكن أفهم دلالاتها جيداً. وإن أمليتها علي قلمي... مع ذلك. فإني حين أتدبر هذه الكلمات الآن. أجدها واضحة في إطار اهتماماتي الفكرية.