الأخبار
محمد السعدنى
أبانا الذي ليس في المباحث
قليلون في هذا العالم من توحدوا مع أفكارهم وذواتهم وأوطانهم فعاشوا لا يعرفون فارقاً بين الخاص »الذاتي»‬ والعام »‬هموم الوطن» ولعلهم ماتوا أيضاً بنفس الهم. منهم صلاح جاهين، وصلاح عبد الصبور وأمل دنقل وعبد الرحمن الأبنودي ومحمود درويش ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي والقائمة طويلة ولاتزال حبلي بالكثيرين، آخرهم العم سيد حجاب، أبانا الذي ليس في المباحث كما سميته ولكم داعبني رحمه الله فرحاً بما خلعته عليه من وصف رآه شاعرياً موحياً وملهماً علي حد قوله.
لا أحب كتابات المناسبات ورثاء الموتي مهما كانت مكانتهم وإبداعهم، أفضل أن أكتب عنهم أحياء لا أمواتاً، لكنها واحدة من خصائص المصريين في تقديس الموت والتشبيب بالموتي، لذا ترددت كثيراً أمام الكتابة عن العم سيد حجاب. هو لم يكن صديقاً قريباً ولم ألتقه إلا عابراً في القليل من المناسبات العامة التي لا تروقني أجواؤها ولا أحفل في العموم بها، وللحديث الوحيد الذي دار بيننا حكاية.
كان شاعرنا الكبير يكتب أسبوعياً يوميات الأخبار، وفوجئنا في مارس 2016 بتناثر خبر في المواقع الإلكترونية بأن الأخبار منعت المقال الأسبوعي لسيد حجاب، سألوه لكنه امتنع عن الإجابة، وكان أن نشرت الأخبار المقال في الأسبوع التالي، بعد ما ثبت ان ظروف النشر لم تكن مناسبة ، قرأته كالعادة وشعرت بعدم ارتياح وغصة، ذلك أن الشاعر في أعماق سيد حجاب راوغه ذات ليلة فكتب بالعاطفة ما تشكك فيه عقله بعدها، أو هكذا أبلغني أنه مكتئب وحائر ولم ترس قناعته علي بر يستريح إليه، فهذه ليست مصر التي حلمنا بها وأن هذا ليس اليوم الذي انتظرناه وبشرنا به.
ونعود للحكاية: حيث خصصت مقالي الأسبوعي في الأخبار تحت عنوان »‬العم سيد حجاب: إلاك» للرد علي ما كتبه شاعرنا الكبير تحت عنوان »‬مصر تكذب علي نفسها»، قلت يومها: »‬مصر تكذب علي نفسها» مقال أزعجني ووخز قلبي، ذلك أن كاتبه شاعرنا الكبير سيد حجاب، وهو من هو، فلكم أمنا للصلاة في محراب الوطن، ولطالما كان أبانا الذي ليس في المباحث وإنما علي الأرض ضمير للوطن وعينه الساهرة يمشي بيننا حاملاً آمال وأشواق جماهيره، فلماذا »‬تسونا» فيك يا شاعرنا الجميل، وليه واخدنا هذه المرة في طريق ممنوش رجوع؟
العم سيد حتاك! أي حتي أنت؟ إذ كيف يأخذك الغضب واليأس وأنت الذي بشرتنا دائماً ببكرة والفرج القريب، ألست أنت القائل: ما تسرسبيش يا سنيننا من بين أيدينا / ولا تنتهيش ده احنا يا دوب ابتدينا / واللي له أول بكرة حيبان له آخر/ وبكرة تفرج مهما ضاقت علينا. العم سيد إلّاك، أي إلا أنت، لا تضربنا في مقتل، إلا أنت، فلا تاريخك يسمح، ولا نحن نرضي لك أن تضع نفسك في هذا الموضع الضيق وتتخلي عن رفاق مسيرة عسيرة وصورة حشد ومواكب. العم سيد عد إلي موقعك، أو حاول إن استطعت أن تمحو من تاريخك ومن ضميرنا كلماتك: ليه يا زمان ما سبتناش أبرياء / وواخدنا ليه في طريق ما منوش رجوع / أقسي همومنا يفجر السخرية / وأصفي ضحكة تتوه في بحر الدموع. نعم تاهت ضحكتك الصافية في بحر دموعنا علي ما ذهبت إليه في مقالك »‬مصر تكذب علي نفسها» فالأوطان يا شاعرنا الكبير لا تعرف الكذب، ربما الأفراد يكذبون، أما مصر فتعيش معركة وجود وحرب. نعم لدينا أخطاء، كما في كل ثورة وكل تجربة وطنية، لكن علينا نحن طليعة المجتمع ورموزه تصحيح المسيرة، لا أن نكفر بالتجربة ونراها أكاذيب وأباطيل، ولا نرضي لك أن يصح فيك قول أمير الشعراء: أُحِبُّ الْحُسَيْنَ وَلَكِنَّ مَا لِسَانِي عَلَيْهِ وَقَلْبِي مَعَهْ! فالناس أمام كل ثورة وأمام كل تجربة وطنية، ثلاثة: الذين معها والذين عليها والذين ينافقونها، ولقد كنت دائماً مع الثورة ومع التجربة الوطنية، فكيف تضع نفسك اليوم في زمرة من هم عليها. يا سيدي مصر ليست السلطة التي يمكننا أن نكفر بها كيف نشاء، مصر هي الشعب الذي إئتمنك علي كتابة ديباجة دستوره، فاسحب ما قلته في لحظة غضب وعد إلي صفوفنا ولا تصف نفسك مع من لا نرضاه صنواً لك.
ما إن نشر مقالي حتي هاتفني مدير تحرير الأخبار أ. محمد درويش: سيد حجاب ح يكلمك دلوقتي ممكن؟ وجاءني صوته الرقيق الحاني أنا سيد حجاب يافندم، رحبت: أهلاً يا شاعرنا الكبير، وإذا به يتدفق شارحاً أسبابه ودوافعه وغيرته وخوفه علي البلد ولعله كان محقاً إذ فتح قلبه البريء كما طفل أفلتته يد أمه في الزحام فتحير وخاف وبكي وإذا به في نهاية المطاف في أحضان أمه مرة أخري. لم يكن غاضباً بل شاكراً أني عاتبته بأدب لم أفقد فيه احترامي له وإيماني به، وعرفت أنه حريص علي قراءتي، وكتب يومياته التالية بعدما عادت به ثورته ولسان حاله يهتف للوطن »‬ما أحلي الرجوع إليه»، تعاهدنا يومها علي اللقاء، ولم يكتب لنا الله بعد موعداً للتواصل. خسارتنا كبيرة بفقد قامات صنعت القوة الناعمة لمصر، تلك التي لا تحفل بها دولتنا بينما ترفع كثيرين من المسطحين وفاقدي الكفاءة والجهلاء.
في نضالنا ضد حكم الإخوان بعد الإعلان الدستوري لمرسي كنت بدعوة من جامعة لويس بروما محاضراً في مؤتمر دولي حضره الأساتذة والطلاب والسلك الدبلوماسي العربي والأوروبي ونائب رئيس المحكمة الدستورية الإيطالية وكبار القانونيين والمثقفين وأفردت له الميديا الأوروبية مساحات كبيرة، يومها رتب لنا د. حسين محمود الأستاذ والعميد والمترجم لقاء مع عدد من أساتذة الأدب المقارن، كان منهم الدكتورة فرانشسكا كورراو مترجمة أعمال سيد حجاب والناقدة د. إيزابيلا دافليتو وعرفت منهما كم كان سيد حجاب سفيراً فوق العادة للثقافة المصرية، تعددت لقاءاتنا وفي كل مرة كان طيف وأعمال وذكريات سيد حجاب تحلق حولنا وتلف المكان بروحه الرقيقة. مات البريء أبانا الذي ليس في مباحث أمن الدولة وهو يحلم بمصر ولها، ولعله مات في حبها جراء خوفه عليها.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف