د. نصر محمد عارف
ثارت الشعوب للحرية فحصلت على الاستعمار
قد يظن البعض أن المشهد العربى بعد الحالى بكل ما فيه من بؤس شئ جديد، أو أن النتيجة الكارثية للثورات العربية كانت بفعل مؤامرات خارجية، أو أن الثورات المضادة هى التى أجهضت الربيع العربي، وحالت دون تحقيق آمال الشعوب، أو أن عدم تقديم الدعم الكافى للثوار من قبل الأشقاء والأصدقاء خذل الثورات، وتركها لوحوش النظم المستبدة ة كل هذه الحجج تقوم على افتراض أن ما يحدث اليوم فى العالم العربى ظاهرة جديدة لا سابق لها، وأنه كان من المتوقع أن تكون هناك نتائج أخرى غير الحنظل الذى ذاق مرارته كل العرب.
النتيجة الوحيدة المؤكدة للثورات العربية هى عودة الاستعمار، فبعد ست سنوات من الربيع العربى لم تبق دولة عربية انطلقت فيها الثورة إلا وقد فقدت من سيادتها، أو استقلالها، أو من مكانتها الدولية ودورها الشئ الكثير، بل إن بعض الدول العربية فقدت وجودها كدولة، وتحولت إلى حطام تتنازعه عصابات يحركها من يمولها من وراء الحدود، وإذا عدنا للوراء قليلا لنضم إلى الربيع العربى العراق الذى شهد عملية تغيير سياسى على يد قوة دولية محمولة على معارضة بعضها كان عميلا لأجهزة مخابرات دولية، وبعضها يحمل جنسية إيران؛ العدو التاريخى للعراق، والطامع الأول فى الاستيلاء عليه، أو القضاء عليه، ومن المفارقات أن الثوار فى ليبيا وسوريا رفعوا أعلاما من مرحلة الاستعمار، فكانت النتيجة أن جاء الاستعمار، وقدم صبيان اليمن بلدهم ومذهبهم وتاريخهم قربانا على مذابح أسيادهم إيران، وفقدت مصر وتونس استقرار اقتصادهما، وتحولتا إلى موقع آخر فى بنية النظام العربي، موقع لم يسبق لأى منهما أن كانت فيه، وعبث الإرهاب بالمجتمع، وأصبحت الدولة ذاتها فى حاجة إلى ترسيخ شرعيتها بعد أن كانت هى الشرعية ذاتها.
تاريخنا مع الثورات عجيب، غالبا ما تكون أحوالنا بعدها أسوأ مما كانت عليه قبلها، إلا فى استثناءات قليلة جداً ولأسباب لا علاقة بالثورات ذاتها، فلنمعن النظر فى ثورة أحمد عرابى 1881، كانت ثمارها استعمار مصر لسبعين سنة تالية، والثورة العربية الكبرى التى قادها شريف مكة، مثلت أكبر كارثة فى تاريخ العرب، إذ نتج عنها تفكيك العالم العربي، واستعماره جميعاً، وعلى ذلك فقس معظم الثورات العربية التالية مع استثناءات محدودة مثل ثورة 1919و 1952 فى مصرةوهنا لا نريد أن نقوم بعملية تعميم، أو الخروج بحتميات، وإن غاية ما نقوم به هو الملاحظة والرصد التاريخى لتكرار نفس النتائج على نفس الأفعال.وهنا يثور السؤال: لماذا يحدث مع العرب هذا؟، لماذا تنجح محاولات التغيير فى أوروبا الشرقية، وأمريكا اللاتينية، وإفريقيا وتفشل عند العرب؟ وقد تكون الإجابة فى الآتي:
أولاً: إن المجتمعات العربية منذ مجيء الحملة الفرنسية 1798 صارت أضعف من الدول أو من الحكومات، وهذا الضعف جعلها فى حاجة دائمة لجهاز دولة قوي، لأن المجتمع المدنى الذى كان يقوم بمعظم حاجات الإنسان؛ من تعليم وصحة ورعاية اجتماعية؛ معتمدا على الأوقاف؛ بدأ يفقد قوته تدريجيا، حتى فقدها كلياً مع سياسات التأميم التى تلت ثورة 1952، وصارت نمطا قلدته الدول العربية الأخرى وهنا نجد أنه من العبث أن يسعى مجتمع ضعيف عالة على الدولة إلى الثورة على الدولة وتغييرها، لذلك كان من الطبيعى أن تسقط ثمار حركات التغيير العربية فى يد الطرف القوى الجاهز لالتقاط تلك الثمار، سواء أكان هذا الطرف الدولة ذاتها، أو دولة إقليمية مثل إيران فى حالة اليمن وروسيا فى حالة سوريا، وتركيا وقطر فى حالة ليبيا.ثانياً: فشل محاولات تحديث المجتمعات العربية منذ محمد على فى مصر، والباى فى تونس فى النصف الأول من القرن التاسع عشر وحتى اليوم، وهذا الفشل يظهر جلياً فى وجود نخبة حداثية على النمط الأوروبى كما تعرف نفسها، أو متغربة علمانية كما يعرفها خصومها، تلك النخبة عبارة عن شريحة ضئيلة غير متجذرة فى المجتمع، ولا تملك روابط ثقافية معه، ولا تعرف كيف تفك شفرات لغة التواصل مع فعالياته، لذلك كانت القوى الجاهزة لركوب الثورات العربية هى القوى الإسلامية، وكان أكثرها بساطة فى الفكر، وسطحية فى الفهم، وانتهازية فى الحركة هو الذى استطاع حشد الجماهير خلف شعاراته إلى أجل محدود؛ ظهرت بعده حقيقته فانفض الناس من حولهم، وعادت الأمور إلى النخب الحداثية.
ثالثاً: مثلت الثورات العربية فرصة للانتهازيين والطامحين والمغرورين لتحقيق أحلام خيالية فى السلطة والثروة والمكانة والنفوذ، فدخلها وتصدر قيادتها وتكلم باسمها كل من يملك المهارة اللفظية، والشخصية الفهلوية، والوجه النحاسي، والضمير الميت، من مثقفين وكتاب وأساتذة جامعات وصحفيين ورجال دين ودعاة؛ ممن ليس لهم أى سابق تجربة فى ممارسة العمل السياسي، ويكفى أن تنظر فى تاريخ الغالبية الكاسحة ممن تصدروا لقيادة ثورة يناير 2011، أو ممن يقودون المعارضة السورية، ستجد أسماء لا تاريخ لها ولا سابق خبرة لها. هذه عينة من الأسباب وغيرها كثير، ولكن النتيجة واحدة، قامت الثورات العربية وقبلها انتفاضات العراق، للتخلص من استبداد النظم الدكتاتورية، فقادت تلك الثورات مجموعات من الأحرار الخونة،الساعين لتحقيق الحرية للمواطن من خلال خيانة الوطن، وتقديمه للمستعمر الأجنبى.