التعليم ليس مشكلة واحدة إنه مشاكل متعددة المصادر متباينة التأثير على الفكر والعقل والوجدان تتفاعل وتتداخل وتتشابك وتزداد تعقيداً فلا نعرف بداية الخيط. نقطة البداية لفض الاشتباك تحليلها إلى عناصرها ومقوماتها والتعامل مع كلٍ منها حسب ما يقتضى علاجها إذ ليس لها علاج واحد.
من الخطأ تشكيل لجنة «إصلاح التعليم» تتناول جميع مقوماته وعناصره بما فى ذلك المبانى وتأثيرها على السلوك أو المناهج أو تدريب المدرسين أو تطوير التعليم الفنى أو مآسى كليات التربية.
من بين عناصر العملية التعليمية تناولنا واحدة «المناهج» وضعنا- بموضوعية - قائمة بالأسس السليمة التى يجب أن تقوم عليها حتى تحقق أهدافها فى التربية والتعليم وتنمية التفكير. وبقياس مناهجنا على هذه الأسس ظهرت ثغرات كثيرة وخطيرة، نتناول ثلاثاً منها بتشخيص أوفى قد يساهم فى وضع الحلول. أولاها مسيرة التفكير التى تبدأ بالمعرفة وصولاً لاتخاذ القرار.
ينبع اهتمامى بمسألة التفكير من اعتقادى الراسخ بأن الأمية الفكرية أكثر ضراوة وخطراً من الأمية الأبجدية وأن الإنسان يتميز عن غيره من المخلوقات بالعقل والفكر والمعرفة والقدرة على أن يستثمرها وأن يضيف إليها .
استقر أن التفكير هو محور حياة الإنسان يدخل كل مجالات الحياة. يقول «بيرى باير» إذا فكرت أفضل تتعلم أفضل وإذا تعلمت ازددت ذكاء وكلما ازددت ذكاء تصبح أكثر قوة وثقة عندما تتحدث إلى عقلك أو تصنع اختياراً. أظهرت الدراسات أن تنمية التفكير تعمل على تنمية شخصية الإنسان ككل سواء الجانب العقلى أو الوجدانى أو الاجتماعى تجعله أكثر قدرة على حل المشكلات وأكثر ثقة بالنفس وأكثر إصغاءً للآخرين وأكثر قدرة على تقبل الاختلاف وأقل أنانية كما أنها تجعل الدارسين أكثر قدرة على التحصيل والتعلم الذاتي.
نقطة البداية فى عملية التفكير هى المعرفة كلما كانت صحيحة سليمة أصبح التفكير صحيحاً سليماً وجاء القرار أكثر رشداً. يؤكد د. فوزى فهمى أن «المعرفة ثروة» ويقول المثل الإنجليزى «البيانات قوة» اهتم العالم بها وظهرت «ثورة المعلومات». البيانات والمعلومات التى تصل إلى العقل مصادرها متعددة لعل أهمها التعليم.
يصبح السؤال: هل المناهج تزرع فى العقول والوجدان المعلومات والبيانات والقيم الصحيحة وبالتالى تمدهم بالمعرفة التى تقود إلى الاختيار الصحيح والقرار الرشيد؟ هل تغرس القيم التى تحتاجها مصر خاصة الآن من ثقافة حب العمل وقبول التعددية والانتماء والسلام الاجتماعى والتمسك بالدولة الدستورية وحب الوطن وغير ذلك من متطلبات التنمية؟ نتناول التساؤل فى ضوء اعتبارات خمسة:أولاً: تأتى المعرفة للدارسين وبالتالى تتخذ القرارات والسلوك حسب ما يزرع فى العقل من معلومات وهذه إما تكون سوية تدعو للخير أو منحرفة تدعو للعنف، واليوم نحصد ما زرعنا نحصد أشواك ما غرسنا. ثانياً: عندما نواجه العنف ونتصدى للإرهاب فإننا لا نحارب أشخاصاً، نحارب فكراً منحرفاً ومعلومات مضللة. عدونا ليس أفراداً ضلوا الطريق بقدر ما هو فكر خاطيء تغلغل فى العقل. علينا أن نحارب الفكر والفكر لا يغيره أو يصححه إلا الفكر السليم التعليم أحد أهم مصادره. ثالثاً: المهم هنا ليس مجرد «إعمال العقل» المهم أيضاً ما يدور فى ذلك العقل وما يسيطر عليه من معلومات ومعرفة وقناعات تحدد أهدافه. جماعات الشر التى تجيد تنظيم خططها الشريرة لهم قدرة على تنمية الفكر المنحرف الذى يحقق أهدافهم.. ويقصد بالفكر السليم. رابعاً: البيانات والمعلومات التى تقدمها المناهج لابد أن تقوم على أمرين: أن تكون صادقة صحيحة دقيقة، وأن تغرس فى العقول والنفوس القيم الإيجابية التى تؤدى للسلام والتعايش والتكافل.
من بين أخطاء وأخطار كثيرة تهدد هذين الأمرين نشير إلى اثنين فقط:صرح مدرس بأننا نمجد صلاح الدين الأيوبى الذى كان له فعلاً موقف نبيل مع ملك فرنسا وقهر الفرنجة، لكنه ارتكب عشرات وعشرات من المذابح ضد المصريين مسلمين ومسيحيين فى القاهرة والإسكندرية من أشدها وحشية مذبحة بالصعيد قتل فيها 5000 شخص أغلبهم من العرب وعلقت رؤوسهم على الأشجار وغير ذلك كثير.يسرد هذه المذابح وغيرها الأستاذ/ على ياسين فى كتابه «2500 سنة من الاحتلال الأيوبى المملوكى» الذى يستند إلى مراجع موثوق فيها (منها المقريزى، ابن أياس، جلال الدين السيوطى) أين هنا الدقة والالتزام بالحقيقة كاملة؟
فى الصف الثالث يدرسون عن الغزالى داعية الجمود والتكفير وكأنه قدوة ومثل ولا يعرفون شيئاً عن ابن رشد رائد التنوير والتفكير. هل هذا ما نحتاجه من قيم؟
خامساً: أشير هنا إلى ثلاث مقالات تبين الفروق بين أساليب الفكر . نشر مقال عن «كيف يتعامل المسلم مع السيول» بذكاء شديد ينتقده د. محمود أبو نوارج «متسائلا:» ما هذا الهزل هل هناك طريقة للتعامل مع السيول مختلفة بين المسلم والمسيحى واليهودي. أما المقال الثالث فهو دراسة جادة وافية للأستاذ محمد عويس الأستاذ بكلية العلوم حول «السيول: المخاطر والوقاية» تتناول الوسائل العلمية لمواجهة أخطار السيول، وكيف يتعامل المواطنون معها، ومسئولية الأجهزة المعنية. كل مقال منها يشكل أسلوباً معيناً فى التفكير إما التواكل والسلبية والاكتفاء بالمرجعية الدينية وإما نقد ذلك وإما تقديم الاقتراحات العلمية لعلاج المشكلة.