مؤلفة الكتاب لوتشانا بورساتى، صحفية إيطالية تهدى كتابها لزوجها جويدو، والكتاب حصيلة زيارة لمصر، وهو ينتمى لنوعية التحقيق الأدبى. أى أنه ليس خلقاً أدبياً بمعنى أنه ليس قصة ولا رواية ولا قصيدة شعر ولا نصا مسرحيا. كما أنه أيضاً من الصعب أن يقال إنه كتابة صحفية. لكنه يقف فى منتصف المسافة بين الكتابتين.
والتحقيق الأدبى شكل من أشكال الكتابة. عرفتها ثقافات العالم. ولم يعرف طريقه إلى ثقافتنا العربية. مع أننى أتصور أنه قد يشكل أحد أشكال مستقبل الكتابة فى العالم. وأنه ربما يصلح أن يكون كتباً. علاوة على النشر الصحفى. وقد قرأت من خلاله أعمالاً سببت المتعة التى نجدها فى الكتابة الأدبية. وأيضاً انطلقت من طزاجة الكتابة الصحفية.
المكان: مصر. والزمان: وربما كان أكثر أهمية من تحديد المكان هو مايو 2013، والمؤلفة وجهت سؤالاً لكل من قابلتهم من أطياف المجتمع المصرى، ابتداء من النخبة وصولاً إلى الناس العاديين. وكان السؤال: كيف تغيرت حياتك بعد الثورة؟ ورصدت بحياد وموضوعية ذ نفتقدهما فى كثير من كتاباتنا - كل الإجابات التى استمعت إليها ممن وجهت لهم السؤال. الكتاب ترجمه محمد سعد الله، ورباب سامى عبد الله، وناشره باب شرق للنشر والتدريج. وفى الكتاب مقدمة كتبها الدكتور ناصر الجيلانى، ناشره. والعنوان الحرفى للكتاب: بخلاف التحرير. وفى الكتاب كتابة أخرى قد نتوقف أمامها لاحقاً حول الثلاثين من يونيو. والتقييم الموضوعى للحدث.
ثمة مقدمة أخرى كتبها: أسامة الغزولى. ينبهنا فيها إلى أننا عندما نتوجه إلى الغرب يجب أن نتجنب البحث عمن يمكن أن نسميهم: أصدقاء مصر. لنبحث بدلاً من ذلك عن أصدقاء الحقيقة. أولئك الذين لا يكون هدف الواحد منهم إرضاء طرف أو إغضابه وفقاً لحسابات يعلمها هو وحده. بل يكون هدفه هو السعى وراء الحقيقة.
المؤلفة غادرت مصر فى مطلع 2010، بعد عدة شهور قضتها كمراسلة لوكالة أنسا الإيطالية للأنباء. رحلت مزودة بذكريات عن رجال يجلسون أمام أبواب دكاكينهم، يحملقون فى الفراغ، منتظرين الزبائن الذين عز ظهورهم من دون أن تلوح أى إمكانية تغيير فى المستقبل. وكان اليأس والاستسلام هما اللفظان الأقدر على وصف ما آلت إليه الروح المصرية.
وبعد ذلك بعام، وفى شوارع المدينتين التونسيتين القصيرين وتونس العاصمة. شهدت ولادة أولى الانتفاضات العربية فى 2011، وهى الانتفاضات العربية التى رفضت المؤلفة تسميتها بالربيع العربى. مخالفة بذلك غالبية الميديا الإيطالية. بسبب قناعتها بأن الثورات لا تحمل ورداً وأزهاراً. ولأنها أيضاً ترفض التنميطات الصحفية.
ولأن الصحفية الإيطالية تؤمن بأن من يشرب من ماء النيل لا بد أن يعود له حتماً. وهذا ما فعلته عندما عادت لمصر فى مايو 2013، لتكمل ما بدأته. ملحمة يناير 2011 تابعتها المؤلفة وهى غريبة عن مصر. تابعت المقدمات من روما، ثم استكملت المتابعة من مكتب المراسلين الأجانب لوكالة الأنباء الإيطالية فى طهران.
ولأن المتابعة عن بعد تكون لها بعض مزايا المتابعة عن قرب. لأن البعد المكانى يجعل المتابع يركز على الجوهرى. ويحمى الإنسان من الوقوع فى التفاصيل الكثيرة ، التى قد تمنع الإنسان من رؤية ما هو جوهرى. والتحليق فى الأزلى.
مصر الأخرى كانت هدف المؤلفة، مصر التى تتجاوز أسطورة ميدان التحرير. تحاول أن تتحدث عن البحر الذى يوحد ما بيننا. وربما كانت دقيقة فى وصفها للبحر الذى ربما يراه البعض يفرق ما بيننا. وهى تقصد البحر الأبيض المتوسط.
نداء الخبز والحرية والكرامة والعدالة الذى خرج من رحم انتفاضات 2011، وربما كانت كلمة الانتفاضة أقرب إليها من كلمة ثورة. هذه النداءات عبرت عما جرى فى مصر فى ذلك الوقت الذى يبدو بعيداً، رغم أنه بعيد قريب.
ثم توزع المؤلفة شهادتها التى حصلت عليها من المصريين بالعدل بين الرجال والنساء. وعبر المسلمين والمسيحيين. ولا تتوقف أمام سكان القاهرة. فهى تتجول بحريتها فى أماكن كثيرة من مصر. وحتى فى القاهرة تهرب من أحياء الأغنياء، وتحاول الوصول إلى الأحياء الفقيرة. وبالتحديد تصل لعزبة الهجانة التى تعد من أحياء البؤس الإنسانى المحيطة بالقاهرة. أطفال الشوارع كان لهم مكان فى اهتماماتها. تقول انه حسب تقدير اليونيسيف عام 2009، فإن عدد أطفال الشوارع فى القاهرة وحدها مليون ونصف مليون من الأطفال. وربما لم تكن لدينا إحصاءات دقيقة عنهم، نتعامل معهم باعتبارهم جزءاً من فلكلور تعاملنا مع ظواهر مصر. رغم أهمية التعامل مع الأمر بالجدية.
ولأن المؤلفة حاولت الانتقال عبر الخطوط التى تفصل النخبة عن الجماهير. فهى تقول:
- أن تضع أفكارك موضع التساؤل، تلك هى البطولة الكبرى. وبعيداً عن كلمات البطولة والجمل الكبيرة الرنانة. فإن الانتقال ما بين دوائر النخبة الهادئة والخطوط الكبرى للناس فى بر مصر. يشكل أحد الحلول الجذرية التى ما زلنا فى حاجة لتذويبها. والعبور بينها ذهاباً وإياباً.
تقول المؤلفة إن أقباط مصر يمثلون 10 بالمائة من سكانها. ولا أعرف من أين أتت بهذا التحديد الرقمى. حتى وصف الأقباط غير دقيق. فجميع المصريين يمكن وصفهم بالأقباط، فالتعبير قديم يعود إلى مصر القديمة. وانطلق بعد دخول المسيحية مصر. أما الوصف الأدق هو وصف المسيحيين. أيضاً فإنه لا توجد أرقام معلنة لعددهم فى مصر. ولأن كتابة المؤلفة تقف فى منتصف المسافة بين كتابة الأدب الخالصة والكتابة الصحفية المعبرة عن حقائق الواقع بشكل سريع وصريح. فقد توقفت أمام بعض تعبيرات المؤلفة التى أعجبتنى أدبياً. لكن عندما نقترب من حقائق الواقع، قد يكون مطلوباً منا إعادة النظر فيها.
قالت المؤلفة إن الشرق الأوسط محطة وقود لسيارات العالم. وأتصور أن الشرق الأوسط أكثر من مجرد كونه محطة وقود لسيارات العالم. فقد شهد نزول الديانات السماوية الثلاث. أيضاً تقول إن الثورات ربما كانت شركات مساهمة. وعند المسافة ما بين تعبيرات الأدب والكلمات الدقيقة يمكن إعادة النظر فى كثير من هذه التعبيرات.
حصة المطالعة:
الثورات يحلم بها الشعراء وينفذها الأبطال وقد يحتار التاريخ طويلاً أمام من يجنون ثمراتها.
نجيب محفوظ