لا بأس بالتفاؤل الذي سري عقب لقاء أخير لوفد رفيع من حركة »حماس» مع قيادة أمنية مصرية كبيرة، صحيح أن كثيرا من التفاصيل ليست في نطاق العلم العام، وصحيح أن اللقاء ليس الأول من نوعه، لكن انفراجا ما جري علي ما يبدو، وتمت إعادة فتح معبر رفح، وبالتواقت مع عودة وفد حماس إلي غزة، وبصورة قد تكون دورية، وعلي آماد متقاربة، ومقابل تعهد نهائي من حماس بالكف تماما عن إيذاء الحدود والأمن المصري، وربما القيام بدور أكثر نشاطا وفعالية في التعاون مع السلطات المصرية.
وقد لا يكون الانفراج كاملا في العلاقات إلي الآن، فعناصر من حركة حماس لاتزال علي لوائح الاتهام في قضايا منظورة أمام المحاكم المصرية، ولا تبدي حماس اعترافا بصحة الاتهامات، ولا استعدادا نهائيا لتسليم المتهمين، وتصر علي نفي التورط في أعمال إرهابية بشرق سيناء، وتنسب التورط إلي عناصر فلسطينية معادية لحماس نفسها، وهذه كلها تفاصيل بحوزة جهات أمنية مصرية رفيعة المستوي، قد يكون من حقها وحدها أن تقرر فيها، خاصة أنها المكلفة حصرا من القيادة المصرية بالملف الفلسطيني، ولها خبرة طويلة بالتفاهم والتواصل مع حماس وغيرها حتي في أسوأ الظروف، وكانت نظرتها العقلانية ضمانا لمنع تدهور العلاقات بلا عودة، وكلنا يذكر ما جري من قبل، حين قررت محكمة مصرية للأمور المستعجلة إدراج »حماس» في خانة الكيانات الإرهابية، وجري الطعن سريعا علي الحكم، وانتهي الطعن إلي إلغاء القرار المستعجل، وأبدت الدولة المصرية ارتياحا لإلغاء الحكم القاضي بإرهابية »حماس»، بما ساعد علي إضفاء سلاسة في التواصل مع قادة حماس، وحافظ علي مصالح مصر ودورها المحوري في التفاعلات الفلسطينية، ونقل الكرة إلي ملعب »حماس».
وفي الظاهر، تبدي حركة حماس مرونة سياسية، وتوالي تصريحاتها عن أولوية الأمن المصري والعربي، وتنفي أي صلة تنظيمية مع جماعة الإخوان المحاربة للنظام المصري بعد ثورة 30 يونيو 2013، والمتورطة في أعمال إرهابية شنيعة، والمتحالفة مع تنظيمات »الدواعش» في شرق سيناء، وفي الاستعانة بكوادر عسكرية من حركة حماس ذات الأصل الإخواني، وهو ما تجهد في نفيه حركة حماس، وتقول إن الروابط مع الإخوان فكرية وتاريخية، ودون أي تواصل تنظيمي مستجد، وهو ما لا تصدقه السلطات المصرية تماما، وتتهم حماس ضمنا بسلوك مزدوج واعتياد الكذب علي طريقة الإخوان، برغم قيام الحركة بإزالة صور الرئيس الإخواني المعزول محمد مرسي من شوارع وميادين غزة، وخفض الدعاية العلنية المضادة للنظام المصري، ولجم تصريحات وتصرفات قادة حماس المتصلبين الأكثر ارتباطا بالتنظيم الدولي للإخوان، وتأكيد أن بنادق »كتائب عز الدين القسام» موجهة ضد كيان الاغتصاب الإسرائيلي وحده.
إذن، فنحن بصدد أزمة ثقة في العمق، وهو ما يجعل الانفراجات الظاهرة مشوبة بتوتر باطن، وربما لا يكون من حل غير دوام التواصل، والمراجعة الصريحة المباشرة للتصرفات الفعلية لا الأقوال المرسلة، وتغليب مصلحة الشعبين المصري والفلسطيني، ففلسطين قضية وطنية مصرية، والشعب المصري قدم من التضحيات في تاريخ الصراع الطويل مع كيان الاغتصاب الإسرائيلي، ما قد يفوق تضحيات الشعب الفلسطيني نفسه، ولم يكن في ذلك منة ولا تفضلا، بل إدراك عميق لوحدة المصير القومي، ولالتزامات الجغرافيا والتاريخ والثقافة، وأن الخطر الأعظم علي مصر يأتي دائما من الشرق، وأن وجود إسرائيل في ذاته خطر علي الوجود المصري في ذاته، حتي لو كانت الحروب توقفت إلي حين، وسكتت المدافع، وهو ما يدركه الجيش المصري الذي لم تتغير عقيدته القتالية، برغم عقد وسريان المعاهدات السياسية، والذي يدوس الآن بأقدام جنوده ملاحق واتفاقات مناطق نزع السلاح في سيناء، ويتقدم بكامل هيئته إلي خط الحدود التاريخية لمصر مع فلسطين المحتلة، وهو ما يحدث لأول مرة منذ ما قبل هزيمة 1967، وكلها تطورات هائلة في معادلات السلاح بالمنطقة، تلزم حماس ـ وغيرها من حركات المقاومة الفلسطينية ـ بإعادة نظر شاملة، فإيذاء الجيش والأمن المصري هو عمل إجرامي خياني، لا يصب سوي في مصلحة إسرائيل، ويجدر بحركة حماس أن تبتعد تماما عن أي عمل أو شبهة عمل يضر بمصالح وأمن مصر والمصريين، وأن تنهي كل روابط تبقت مع جماعة الإخوان الأسيرة لمخابرات أصدقاء إسرائيل، وأن تتحول إلي حركة تحرير وطني فلسطيني، لا تلتزم سوي بأولوية القضية الفلسطينية علي ما عداها، وبأولوية دور الشعب المصري، وهو أكثر الشعوب العربية كراهية للصهيونية، وأعظمها سبقا في سجل التضحيات من أجل فلسطين.