لدينا ما يكفي من المنتجعات والشاليهات والفيلات والكومباوندات وغير ذلك مما ينشده القادرون علي شراء كل شيء في هذا البلد.. أصبحت تلك المنشآت الفاخرة معروضة يومياً في الصحف وعلي شاشات الفضائيات وشاشات العرض علي الطريق ـ وهو ما يعني أنها زادت عن حاجة القادرين علي شرائها.. العرض أكثر من الطلب.
ولدينا ما يكفي من مستشفيات الخمس نجوم ومراكز العلاج الوثيرة.. التي يستطيع القادرون علي دفع أي مبالغ تطلب منهم دون نقاش فيها.. ليس للعلاج فقط وإنما للاستجمام والنقاهة.
أزمتنا الحقيقية ليست في توفير احتياجات القادرين.. فقد تكفل المستثمرون بذلك.. ويحصلون علي المقابل بسخاء.. أزمتنا في سكن الغلابة وعلاج الغلابة وتعليم الغلابة أبناء الطبقات محدودة الدخل الذين لا تتجه اليهم أنظار المستثمرين.. وهم في الحقيقة مسئولية الدولة.. دستورياً وإنسانياً.
الدولة هي المسئولة عن توفير الشقق بأسعار تتناسب مع الدخول المتدنية للعمال والموظفين والطبقة المتوسطة والشباب الذي يبدأ حياته يعرق جبينه.. وتوفير المستشفي والدواء المناسبين لعلاج المرضي غير القادرين بأسلوب متحضر يحفظ للناس كرامتهم وكبرياءهم باعتبارهم مواطنين وعلاجهم واجب طبيعي علي الدولة مثلما يحدث في كل دول العالم.
لكن للأسف.. مستشفيات الدولة عندنا ـ أو ما تبقي منها ـ يباع ويتحول إلي العلاج بأجر.. ولم يعد لغير القادرين ـ الذين هم أغلبية ـ مكان في أي مستشفي محترم.. صار مكانهم علي باب المستشفي لا يمكنهم الدخول منه بل عليهم أن يموتوا علي هذا الباب.. أو يحملوا مطرودين ليموتوا بعيداً.
إذا كان المستثمرون قد قاموا بدورهم ووفروا المساكن والمستشفيات الفاخرة بأموالهم لمن يدفعون.. فماذا فعلت الدولة في مسئوليتها تجاه غير القادرين علي الدفع؟!.. هل من العدل أن تتخلي عنهم وتتركهم أيضاً للمستثمرين؟!
في ظل ثورة 23 يوليو 1952 اختار جمال عبدالناصر الدكتور النبوي المهندس وزيراً للصحة.. فلم يبدأ ببناء المستشفيات الفارهة.. وإنما كانت البداية متوافقة مع توجهات الثورة بوضع حجر الأساس لنظام الوحدات الصحية في ريف مصر.. وافتتح بنفسه أكثر من 2500 وحدة تخدم 16 مليوناً من الفلاحين وتقدم لهم الدواء مجاناً.
وقد عرضت "الشروق" يوم السبت الماضي جانباً من تجربة الدكتور النبوي المهندس في تحمل الدولة لمسئوليتها تجاه مواطنيها غير القادرين.. لنكتشف ان هذا الرجل العظيم كان أول من فكر في إنشاء المستشفيات المتخصصة وعياداتها الخارجية.. وأول من حوّل الاسعاف لوحدة عمل مستقلة بعيداً عن ميزانية المستشفيات.. فأسس بذلك فكرة هيئة قوية بمحطات لاسلكي وأجهزة تنفس صناعي ونقل دم.. وتحول الاسعاف من مجرد سيارة لنقل المريض لوحدة انقاذ أو علاج.. وكان أول من تبني فكرة الطب الوقائي وبرامج تطعيم الأطفال بدءاً بتطعيم شلل الأطفال.. وأغلق الباب أمام أوبئة كثيرة كان من الممكن أن تستوطن مصر مثل الدرن الرئوي.
وأسس الدكتور المهندس مشروع تنظيم الأسرة واستطاع أن يضبط الصحة الإنجابية محافظاً علي صحة المواليد وأعدادهم.. وكان المشروع فارقاً في ذلك الحين.. واستخدم الطب في دعم منظومة العمل والانتاج فأسس نظام التأمين الصحي الذي يتكفل بعلاج العاملين بمن فيهم المصابون بأمراض مزمنة بعد أن كان مصيرهم الموت.. وطوّر نظام القومسيون الطبي الذي حدد لكل شخص العمل الذي يناسب حالته الصحية.. كما أسس معهد السمع والكلام ومعهد القلب الذي كان حديث الهيئات الطبية العالمية وقتها التي كانت تزور مصر آملة أن تبدأ نهضة علمية حقيقية في مصر.. ويعود اليه الفضل في تأسيس صناعة الدواء وتشكيل هيئة للرقابة علي صناعته.. وقد تم ذلك كله خلال 10 سنوات قضاها الرجل في منصبه وزيراً للصحة.. تعاقبت عليه 3 حكومات ولكنه ظل يؤدي رسالته حتي توفاه الله.
هذا درس بليغ لمن يريد أن يفهم ويتعلم كيف تكون مسئولية الدولة تجاه أبنائها.. وكيف يحمل الشرفاء هذه المسئولية عن طيب خاطر.. فلا يهربون منها.. ولا يتحايلون عليها.