الصباح
حمادة حسين
عن فطرتنا الكاذبة
.. ولما اختلفت الرواية بين واحد من أهالى «دنشواى» وجندى إنجليزى طالب الهلباوى باعتماد رواية الإنجليزى على أساس أن فطرته صادقة بينما فطرة المصرى كاذبة. مؤلم جدًا ومهين قول الهلباوى، الحق أنه جارح حد الموت، خاصة لو أخذك السؤال: ماذا لو كان قوله صحيحًا، هل فعلًا فطرتنا كاذبة؟
«إبراهيم الهلباوى» هو المحامى الذى اختاره الإنجليز مدعيًا عامًا لإدانة 18 فلاحًا من قرية «دنشواى» محافظة المنوفية «متهمين بقتل جندى إنجليزى كان يصطاد الحمام، حتى يتم التنكيل بهم ليكونوا عبرة لمن تسول له نفسه ويفكر من الاقتراب من أى جندى إنجليزى.
مؤهلاته أنه مشهور، موهوب، حجة فى القانون، حريف فى استغلال ثغراته، فاقد الانتماء بتأثير صدمته فى هزيمة الثورة العرابية، هو أصل المحامين حسن سبانخ فى «الأفوكاتو»، ومصطفى خلف فى «ضد الحكومة»، وسيد أوبرا فى «أوبرا عايدة».
المتهمون الـ 18 أيقنوا أنهم ماضون لا محالة لمصيرهم الأسود ليس فقط لطبيعة المحكمة «الهزلية» فقط التى ترأسها المستشار فتحى زغلول شقيق سعد زغلول وبطرس غالى، وإنما لأن الهلباوى يترافع ضدهم، إنهم يعرفونه جيدًا ومؤمنون بقدراته وسطوته فى قاعات المحاكم العادية لدرجة -كما سجل صلاح عيسى فى كتابه «جلاد دنشواى»- أنه انتشر بين البسطاء أنه حين يدخل أحدهم فى مشاجرة مع آخر، يقول له «هاقتلك وأجيب الهلباوى يطلعنى براءة، وإذا اشترى أحدهم «لسان» واستغلى سعره، يقول للجزار «هو لسان الهلباوى»، عباس العقاد وصف لسان الهلباوى «كانت ذلاقة لسان لا تطيق نفسها ولا تريح صاحبها».
هل فعلًا فطرتنا كاذبة ؟
الإجابة تبدو بديهية لواحد من ولاد الجيل المسحور والمحصور بين جيل ثورة الضباط الأحرار فى 52، وجيل ثورة الشباب الأحرار فى 25، بين أب ديكتاتور امتلكنى وأمعن فى إذلالى، لا يرضيه إلا الطاعة العمياء، ذلك أن النقاش عقوق، وابن رافض يكون بائسًا ومستسلمًا لسلطتى –كما كنت- وعازمًا على وضع حدود وإطار يحكم علاقتى به، الأب سحقنى باسم الأدب والأخلاق والدين، والابن ضغط على مركبات نقصى وعللى وهوانى على نفسى والناس بحقه وحلمه، أنه يكون بنى آدم عنده كرامة وكبرياء، ولأن نجاحه فى تحصيل حقه وتحقيق حلمه يعنى «كسر عين» لجيلى، انحزت لأبويا ضده ولوثت سمعته وشيطنت حلمه، اتهمته بالعمالة والتأمر وباركت اعتقاله ورحبت بتلفيق قضايا تدمر مستقبله.
مش سهل على واحد من جيل مسحور عاش عمره محنيًا أمام سلطة أبوية قاسية غاشمة، أنه يتقبل ابنه ببنطلونه الساقط وشعره المربوط بـ«توكة» وهو يقول له «ارفع راسك فوق أنت مصرى»، كيف ونحن «ولاد مبارك» لم نعرف للدنيا سما، سماؤنا سحابة سوداء كئيبة، أحببت الشعار وتمنيت أكون أول من هتف به، لكن رأسى ثبتث على وضع السجود. مشكلة هذا البلد فى الوصول إلى حكم مدنى ودولة مواطنة لا رعايا –كما رأى الفنان محمود حميدة، 60 سنة- تحل بمنتهى البساطة إذا نسفنا كل من وصل 50 سنة وأنت طالع بما فيهم الشرفاء لأنهم شاركوا بالصمت فى توحش الفساد والجهل والمرض.
انا أحد الذين أشار إليهم محمود حميدة، لذلك لن أتوقف عن تشوية «25» وتجريس شبابها بقدر ما تمنيت أن أشارك فيها.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف