لما كان الزواج، كان الطلاق حتى تسير الحياة صحيحة سليمة دون إكراه أو إجبار، إذ إن الطلاق فى الإسلام وسيلة تصحيح، وليس وسيلة ضغط أو إذلال أو تعليق (ولا تذروها كالمعلقة). لقد اشتهر حديث «أبغض الحلال إلى الله الطلاق»، وقد ضعَّفه الألبانى وآخرون. وهذا يعنى أن يتجنب المسلم إيقاع الطلاق ما وجد عنه مندوحة كما يقول أهل الفقه.
طبعًا فى أحيان كثيرة فى المجتمعات التى تفهم دينها فهمًا صحيحًا وتمارس العبادة ممارسة مرضية، وفى المجتمعات التى تراقب الله تعالى وتخشاه، يكون الطلاق كما ينبغى أن يكون، تصحيحًا للأوضاع الخاطئة. وقد كان الطلاق كذلك فى صدر الإسلام، ولكن مع التطور والتغريب والانفلات، تقل الخشية من الله تعالى ومراقبته، فيصبح الطلاق صعبًا أو عقابًا أو عضلاً أو ظلمًا مثل قضايا كثيرة.
وقد دعا الرئيس السيسى فى الكلمة التى ألقاها خلال الاحتفالات بمناسبة العيد الخامس والستين للشرطة المصرية، بأكاديمية الشرطة فى القاهرة، إلى دراسة الأمر والنظر فى سن قانون بحيث لا يُعتمد الطلاق إلا فى حالة توثيقه، لكبح ظاهرة ارتفاع معدلات الطلاق فى مصر مؤخرًا. وقد جاءت مطالبة الرئيس السيسى، بأن يكون التوثيق شرطًا لوقوع الطلاق بين الزوجين. والمعروف أن الطلاق الشفهى، الذى تقره الشريعة الإسلامية معمول به على مر العصور، إلى جانب الطلاق الموثق عندما يوجد.
وقد جاءت مطالبة الرئيس السيسى بذلك، بناء على دراسة للجهاز المركزى للتعبئة العامة والإحصاء وثقت ارتفاع حالات الطلاق خلال العقدين الأخيرين، من عام 1996 إلى عام 2015. بدرجة كبيرة بل مفزعة، مما يلفت نظر المعنيين بأمر الإصلاح الاجتماعى والدينى.
وقد حذر الرئيس السيسى من التداعيات السلبية للطلاق على الزوجين وعلى الأبناء والمجتمع بأسره. وقال: «ألا يجدر بنا أن نصدر قانونًا بحيث لا يتم اعتماد الطلاق إلا فى حضور المأذون (موثق عقود الزواج)، لكى نعطى فرصة للزوجين لمراجعة نفسيهما؟» وسأل الرئيس السيسى شيخ الأزهر عن إمكانية إصدار القانون. والمعلوم طبعًا أن الطلاق الرجعى يعطى فرصة للزوجية لاستمرار الحياة الزوجية تحت سقف واحد ومع الأولاد لمدة ثلاثة أشهر للمراجعة دون عقد جديد ولا مهر جديد.
وهذه الفكرة التى طرحها الرئيس السيسى ليست جديدة؛ فقد طرحها بعض العلماء والفقهاء ومنهم مؤخرًا الشيخ خالد الجندى عضو المجلس الأعلى للشئون الإسلامية، والشيخ سعد الدين الهلالى من قبل، واعترض عليها بعض علماء بالأزهر.
ومن المعلوم لدى المعنيين بهذه القضايا أن محكمة القضاء الإدارى بمجلس الدولة، كانت قد أحالت من قبل إلى هيئة مفوضى الدولة، دعوى تطالب بتعديل قانون الأحوال الشخصية واعتبار الطلاق شرعيًا فى حالة توثيقه رسميًا فقط.
وقررت الدائرة الأولى بالمحكمة إحالة الدعوى المطالِبة بإلزام وزير العدل بإصدار قرار بإجراء تعديل على قانون الأحوال الشخصية، ينص على «ألا يعتبر الطلاق شرعيًا للمتزوجين بوثائق رسمية إلا بالتوثيق الرسمى».
واختصمت الدعوى التى حملت رقم 12265، كلاً من رئيس الوزراء ووزير العدل وشيخ الأزهر.
واليوم تطرح هذه القضية على ساحة البحث لدراستها والبت فيها والجهات المعنية بذلك أساسًا هى الأزهر الشريف والمفتى وإدارة الإفتاء ومجمع البحوث الإسلامية، والبرلمان والمنظمات والهيئات النسائية، حتى تكون الفتوى فى صالح المجتمع، ولا تخالف أمر الله ولا شريعته وتحقق مقاصد الشريعة.
هناك مسائل وتساؤلات كثيرة يجب الإجابة عليها بدقة ومنها هل الطلاق الشفهى يقع أم لا فى الحالة الجديدة ؟ أى الصيغ التى يقع بها الطلاق والصيغ التى لا يقع بها ؟ ما الموقف من طلاق الغافل والساهى والمخطئ والهازل والمدهوش والمجنون والمعتوة إذا ذهب إلى المأذون وأصر على الطلاق، وموضوع العقيدة والفرق المتعددة فى الزواج والطلاق. وعلى أى المذاهب سيعتبر المأذون الطلاق بالثلاثة.
نحن نعلم يقينًا أن الطلاق عند السلف الصالح ثلاث مرات، أى يستطيع الرجل أن يطلق زوجته طلاقًا كاملاً، ثلاث مرات كاملات، وبعدها تصبح محرمة عليه ولا يحق له استرجاعها حتى تتزوج من غيره. وذلك وفق قوله تعالى «الطَّلاَقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ».
أى أن الطلاق مرتان والثالثة هى فى قوله تعالى: (فَإِن طَلَّقَهَا فَلاَ تَحِلُّ لَهُ مِن بَعْدُ حَتَّىَ تَنكِحَ زَوْجًا غَيْرَهُ).
وقد تساءل بعض القراء، لماذا يقترح الرئيس السيسى «ولى الأمر» هذا الموضوع اليوم. وقد اطلعت على قرار لهيئة العلماء بتاريخ 12/11/1393 هـ أى منذ 45 سنة تقريبًا، ينص فيه كبار العلماء على أن ما يجرى بحثه فى مجلس الهيئة يتم بطلب من ولى الأمر أو بتوصية من الهيئة، أو من أمينها، أو من رئيس إدارات البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد، أو من اللجنة الدائمة المتفرعة عن الهيئة - فقد جرى إدراج الموضوع فى جدول أعمال الهيئة لدورتها المنعقدة فيما بين 29/10/1393 هـ و12/11/1393 هـ فى هذه الدورة جرى دراسة الموضوع.
بعد الاطلاع على البحث المقدم من الأمانة العامة لهيئة كبار العلماء والمعد من قبل اللجنة الدائمة للبحوث والإفتاء فى موضوع «الطلاق الثلاث بلفظ واحد».
وبعد دراسة المسألة، وتداول الرأى، واستعراض الأقوال التى قيلت فيها، ومناقشة ما على كل قول من إيراد -توصل المجلس بأكثريته إلى اختيار القول بوقوع الطلاق الثلاث بلفظ واحد ثلاثًا، وذلك لأمور عديدة.
أقول إن الطلاق فيه أحكام وله آداب، وهو حكم شرعى، وفيه حل وحرمة، ويحتاج إلى مزيد من البحث والدراسة إذ إن الشريعة تصلح لكل عصر ومصر، ولا تقف جامدة أمام مشكلات العصور على تنوعها واختلافها وتعددها. ونختم هذا المقال بقصة موحية هى قصة الإمام مالك مع «أبو جعفر المنصور»: لما كتب الإمام مالك الموطأ، أراد أبو جعفر المنصور أن يحمل الناس جميعًا عليه، فأبى مالك -رحمه الله-، فقال: يا أمير المؤمنين إنَّ أصحاب رسول الله قد تفرقوا فى الأمصار، ومع كل منهم علم، فدع الناس وما اختار أهل كل بلد لأنفسهم». وللحديث صلة.
وبالله التوفيق