البديل
محمد حماد
“ثورة يناير”… لماذا يكرهونها؟!
كانت مصر على موعدها مع القدر في يوم 25 يناير سنة 2011..
خرج شبابها في يوم اعتادت السلطة على الاحتفال فيه بعيد الشرطة، وكان المغزى واضحاً لا لبس فيه، حدث الفراق بعد أن استبدت الشرطة بالشعب، وتصاعد منسوب القهر والتعذيب يوماً بعد يوم حتى وصل إلى حدود فاقت أي قدرة على الصبر والاحتمال، وتزايد منسوب الغضب، وتراكم مخزون الألم، فوق مخزون الظلم الاجتماعي الكبير، ولم يبق غير شرارة تشعل فتيل الانفجار..
خرجت فتائل الانفجار في يوم 25 يناير سنة 2011 ترفع شعارات الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية، وتطالب بالتغيير، وكان مبلغ أملها أن تقصي وزير الداخلية عن موقعه، ولكن الشعب المصري كان قد قرر رفع مستوى الأماني، فخرج تباعاً، أفواجاً وراء أفواج، تملأ الساحات والميادين العامة في أكثر من محافظة، شمالاً وجنوباً، حتى بدا أمام العالم أجمع أن الغضب العارم يسكن مصر منذ فترة طويلة وكان ينتظر لحظة ينفجر فيها، وقد كان.
كانت المسببات والدوافع متعددة، منها ما هو اقتصادي اجتماعي، ومنها ما هو سياسي وثقافي، ومنها ما هو خاص بالمظالم التي كثرت في عهد الرئيس المخلوع، ومنها ما هو وثيق الصلة بكرامة الناس، التي أهدرت على نطاق واسع في عهده الطويل، حتى قيل عن حق أن كل شاب وفتاة، وكل رجل وامرأة وحتى كل طفل خرجوا جميعا لأسباب وطنية عامة بالإضافة إلى سبب شخصي يخص كل فرد فيهم.
كأن يد البلاغة الشعبية قد امتدت إلي أبلغ ما في جعبتها فأخرجت شعار الثورة، تلخص به الحال المرفوض، وتتطلع منه إلى الحال المطلوب، الشعب يريد إسقاط النظام الفاسد المستبد الذي أهدر كرامة المصريين، وبمفهوم المخالفة فالشعب يريد بناء النظام الصالح العادل الديمقراطي الذي يحفظ على المصريين كرامتهم.
**
“ثورة يناير” كانت حتمية، لا هي مؤامرة، ولا مصنوعة، وهي مستمرة طالما لم تتحقق أهدافها، وهي كما أن لها أنصار ومؤيدون لها أعداء وكارهون.
الثلاثة الذين يكرهونها، هم حكام اليوم وطباليهم، وفلول الأمس ولصوصهم، إضافة إلى “كنبجية” الاستقرار، ومخاوفهم التي أقعدتهم إلى ” الكنب” طول الوقت، وأكثرهم ينتمون إلى الطبقة الوسطى وما فوقها، وهم الأكثر استعداداً للثورة إذا ما زادت عليهم الضغوط وتأثرت أحوالهم المعيشية، وهم أيضاً الأسرع نكوصاً عنها إذا ما تم اللعب على مخاوفهم وتهديد استقرارهم المزيف.
الذين أطاحت بهم الثورة وفلولهم من الطبيعي أن يكرهونها:
مبارك وشلته الحاكمة، وأزلامه وأركان نظامه، والورثة الحالمين بوراثة الحكم والنفوذ والثروة والجاه، كل هؤلاء لهم عذرهم في أن يكرهوا الثورة التي حرمتهم من كل ذلك.
الوجوه الكالحة التي عملت مع مبارك ونجله وأراقت ماء وجوهها نفاقاً وتزلفاً للحاكم الفرد والوريث الوحيد كلها تكره الثورة التي أظهرت سوء ما يبطنون وعفن ما يظهرون.
كل هؤلاء من الطبيعي أن يكرهوا ثورة عرتهم وكشفت عوراتهم، ولا يطيقون سيرتها.
أما الذين يحكمون اليوم باسمها، والتي لولاها لكانوا على أقل تقدير ضباطاً محالين إلى المعاش أو على أكثر تقدير محافظين لشمال سيناء أو مرسى مطروح، هؤلاء الذين استفادوا من الثورة لماذا يشتركون في كراهيتها مع المضارين منها.!
هندسوا كل شيء لكي تعود الأمور إلى ما كنت عليه، قبل الثورة، استدعوا نفس السياسات التي قامت ضدها الثورة، واستوزروا نفس الوجوه من الجعبة نفسها التي كان يستوزرهم منها النظام القديم الذي ثارت ضده الملايين، وظلوا على كرههم للثورة والثوار قابضين.
والسؤال لماذا يكرهونها؟
كان لازم تعيش بعضاً من أيام التحرير، وتبيت ولو ليلة من ليالي الميادين التي تجمَّعت فيها جموع المصريين تطالب بإسقاط النظام لكي تعرف لماذا يكرهون “ثورة يناير” كل هذا الكره، وبكل هذا العنف..
كان لابد أن تشارك ولو ليوم واحد في الميدان وسط كل هذا المزيج المركب من الخوف والطمأنينة من اليأس والأمل من الإصرار والتحدي وخشية الخذلان حتى تشعر بتلك الروح التي أشعلت حماسة الرابضين في تلك الساعات الحاسمة من تاريخ مصر على الاسفلت في برد يناير 2011.
كان مهم جداً لك أن تتواجد في قلب هذه الجموع متدثراً بدفئها حتى تتذوق “الطعم” الذي كان يمكن أن يمضي عمرك كله دون أن تعرفه، أن تتذوق “طعم الحرية”.
كان ضرورياً جداً أن تجمع خوفك مع خوف الآخرين ليصنع الخوف الجماعي تلك الشجاعة والقوة التي لا تقهر، حتى تعرف أن الإنجاز الأهم والأخطر الذي حققته “ثورة يناير” أنها أسقطت حوائط الخوف؛ وهو الإنجاز الذي خشيت منه السلطة وقتها، ولا تزال تخشاه حتى اليوم، وظلت تعمل طوال السنوات الست الماضية على وأده ..!
“ثورة يناير” نزعت الخوف من قلوب المشاركين فيها وزرعته في قلوب الذين خرجت الناس ضدهم تطالب بإسقاطهم، ولذلك هم يكرهونها.
لقد قلبت خوف الجماهير إلى شجاعة منقطعة النظير وانقلبت طمأنينة أهل الحكم إلى رعب مستديم من تكرار اللحظة الفارقة مرة أخرى، لهذا حق لهم أن يكرهوها ويكرهوا كل لحظة فيها وكل من شارك فيها ولو بالتحبيذ.!
أمسك شعب الميادين بأحلامهم في أيديهم، ورأوها رأي العين وهي تتحقق، واحدة وراء أخرى، الديكتاتور الصنم يحطم، بعد أن كانت كل الآمال تتوقف عند إقالة وزير داخليته الجزار، الأحلام إذن ممكنة، وقابلة للتحقق.
وكان بالميادين أناس كثيرون ذكروا أنهم ولدوا هنا وفي هذه الأيام، وفي هذه الأجواء، واعترفوا أن أعمارهم التي مضت لم تكن موجودة.
أذكر شاباً في أوائل العشرينات من عمره وهو يقول: كنت أشعر أني عجوز، أعجزتني كثرة الهموم، وأعوزني ضيق ذات اليد، وضيَّق حياتي فقدان الأمل، وهنا وجدت بارقة أمل في المستقبل، فولدت مجدداً.
هذه المشاعر على المستوى الفردي صنعت شعوراً جارفاً واحداً وموحداً لكل الناس التي خرجت تطلب الانعتاق من كل هذا الجمود والتخلف والقهر، شعور بمولد شعب سقطت عن أعينه الغشاوة، وانزاحت من على وجوههم الغبرة التي كستها لزمن طويل، وأفاقوا على أنهم خرجوا لتوهم من “الغيبوبة” التي أدخلوا فيها طوال عقود من التغييب والاستبداد والقهر والإفقار وانتشار الفساد.!
في يناير وفبراير في عز الشتاء لم يكن التحرير ميداناً يضم بين جنباته هذه الملايين، ولم تكن مصر سجناً مغلقاً على كل من فيه، بل كان الميدان تجريه حياة، وكانت مصر تنبئ بحياة كريمة وسلطة تحترم شعبها، وكان الدفء الذي يملأ كل القلوب قد حوَّل شتاء 2011، إلى أجمل فصول الشتاء دفئاً في حياة المصريين، وكان من أعظم مشاهد “ثورة يناير” أن التف الشباب المسيحي في صفوف حول المصلين المسلمين يحمونهم ضد أي عدوان قد يقدم عليه أنصار مبارك ومؤيدوه.
جريمة “ثورة يناير” لدى الذين يكرهونها أنها كسرت سلاسل اليأس، وزرعت الأمل في نفوس الناس، وعظمت طموحاتهم، وهو أمر تخشاه الأنظمة وتحاول أن تقتطعه قطعة وراء الأخرى وتزرع مكانه اليأس والخوف من جديد.
روح يناير هي التي يتمنون إزهاقها، وهي السبب وراء كرههم لها، الروح التي ابتعثتها “الثورة ” هي أخطر ما يواجهونه من اليوم الأول وحتى يومنا هذا، وكل هذا الفجر والعنف والحقد في خصومتهم مع الثورة هي سببه.
يكرهونها لأنها كاشفة، نزعت الأقنعة عن كثير من الأجهزة والمؤسسات والأفراد، وأسقطت مساحيق الخداع التي انطلت على الناس فترة طويلة، وصار في يقين المصريين أنه لا أحد حمى ثورتهم ضد الطغيان، وأن من حماها هو وجودهم في الميادين، وحين انصرفت الجموع اجتمعت كل الجهات على الثورة تحاول أن تجتثها من التاريخ، وشارك الجميع، أجهزة وإعلاميون ومخبرون وكل الفاسدين في أكبر وأشرس عملية تشويه للثورة والثوار، ومنذ اليوم الأول ورغم شعارات “الإيد الواحدة” إلا أن كل الأيادي، وبدون استثناء، اشتركت في محاولات محمومة ومتكررة لقتل الثورة وقنص زهرتها اليانعة..
ما يخيفهم أكثر ويجعلهم يكرهونها أكثر فأكثر أن روحها التي بثتها في ملايين المصريين ما تزال حية، وفاعلة، وقادرة على الإنجاز، تلك الروح التي خاضت وفازت في معارك كثيرة، وآخرها معركة مصرية جزيرتي “تيران وصنافير”، وهي معركة ثورة يناير بامتياز.
والآن وبعد مضي ست سنوات نتوجه إلى أولئك الذين مدوا أيديهم إلى السماء ليقطفوا قرص الشمس، هدية لمصر، إلى ثوار وشهداء ثورة 25 يناير 2011 بكل تحايا الإجلال والتقدير والاحترام، وسلاماً إلى “كل الورد اللي فتح في جناين مصر”.
ولساها ثورة يناير، ولساهم يكرهونها، ولساهم مرعوبين منها…
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف