جمال فهمى
النفاق والنذالة كنز لا يفنى
السطور المقبلة مجرد “حكاية” خيالية كتبها العبد لله بعد نحو عامين من ثورة ٢٥ يناير وقبل أيام قليلة من ثورة ٣٠ يونيو .. ولست أريد من تكرار نشرها الآن، التعبير عن أي فخر ولا ادعاء للحكمة بأثر رجعي، وإنما فقط التذكير بأصل ظاهرة شنيعة نعيشها حاليا ونكابد شرورها القاسية كل يوم، بل كل ساعة، برغم الثورتين العارمتين .. هذه الحكاية كنت بدأتها بالتنبيه الآتي:
القصة التي سأرويها لحضرتك حالا تنتمي إلى “مدرسة الخيال الواقعي جدا” ، وسوف أنقلها (ببعض التصرف) عن راوي ابن حلال حكاها على مسامع العبد لله بعد بضعة أسابيع من سقوط وانخلاع الأستاذ حسني مبارك وولده، ولأنني أتوقع تكرارها بعد 30 يونيو الجاري إن شاء الله، فإنني أرجوك أن تتذكرها عندئذ وتتكرم وتستبدل أسم فضيلة الأخ محمد مرسي العياط (“الذراع الرئاسية” لعصابة الشر السرية) التي ورثتنا من الأستاذ المخلوع، بهذا الأستاذ الأخير، كما أرجوك بإلحاح أن تبقى متيقظا لأن بطل هذه الحكاية القديمة المدعو “أبو كريم” ، غالبا سيظل معنا هو وأمثاله بعد أن تسقط العصابة السرية، يلوثون أسماعنا ويسودون دنيانا بينما هم يسرحون ويمرحون وينعقون تحت قبة البرلمان (حدث هذا فعلا من أحدهم في برلمان العصابة المدحورة) وعلى الشاشات وفي زوايا صفحات الصحف، إذ هم لا يموتون ولا يلحقهم الفناء أبدا، فقد خلقوا من الخراب والعدم فعلا، لكنهم مؤهلون للعب دور الوباء القاتل في كل عصر وأي أوان .. فإلى الحكاية:
.. تنهد صاحبنا تنهيدة مفعمة بالرضا وتوقف (مؤقتا) عن غرس سن قلمه الذهبي الفاخر في لحم كومة الورق التي أمامه، ثم ـ كعادته ـ راح يقرأ بصوت مسموع ما تفتقت عنه قريحة النفاق والكذب التي يباهى بها أمم الدنيا أجمعين .. وبمزيج من الإعجاب والراحة أنشد على نفسه آخر فقرة كتبها:
“.. ستبقى مصر مبارك شامخة سامقة تنعم بالاستقرار والاستمرار ولن تحيد أو تميل ولن تستجيب أو تتنازل أبدا أمام هذه الحفنة الغوغائية العميلة التي باعت ضمائرها بالدولار وتعمل وتتحرك الآن وفقا لأجندات وكراسات وكشاكيل أجنبية ..”.
توقف فجأة وراح يعيد قراءة عبارة “أجندات وكراسات وكشاكيل أجنبية ” فلما لم تعجبه لفظة “كراسات” شطبها بقسوة واحتفظ فقط “بالأجندات والكشاكيل الأجنبية” .. وفي اللحظة التي عاد فيها واستل القلم وبدا متأهبا لاستئناف عملية غرس القلم في لحم أوراقه، هتف واحد من العشروميت تليفون المسجاة على يمين مقعده .. لم يخف ضيقه وأشار بيده إشارة بذيئة قبل أن يرفع السماعة ويزعق:
ـ فيه إيه يا مشيرة ؟ .. أنا مش قلت مفيش تليفونات لغاية لما اخلص كتابة؟
ـ يا افندم ده البيت.. المدام
ـ طيب يا اختي إديهالي (عّدل نبرة صوته وكساه بود مصطنع) أيوه يا أم كريم .. خير؟
ـ ما بتردش ليه ع الموبايلات بتاعتك؟
ـ ما انتي عارفه .. عاملهم كلهم “سايلنت” عشان بكتب..
ـ بتكتب ، أسم الله .. طيب شوف بقى إيه اللي جالنا من كتابتك ..
ـ جالكم!! .. جالكم الخير كله ياولية .. مالك ؟!
– مش مالي أنا يا فالح ، مال ابنك كريم.. الواد ياضنايا راجع البيت مقهور وحالته النفسية زي الطين..
ـ رجع .. رجع منين ، الجامعة مقفولة؟!
ـ كان في ميدان التحرير ..
ـ وإيه اللي وداه ميدان الزفت؟
ـ راح مع زمايله وأصحابه .. مصر كلها موجودة في التحرير ماعدا انت واللي زيك..
ـ فيه إيه ياستي ع الصبح؟!
ـ فيه أن ابنك الناس كلها بيعايروه بسيادتك وبيسمعوه كلام زي السم .. بيقولوا عليك حقير ومنافق وكذاب وبتشهر بالثورة والثوار.
ـ ثورة وثوار إيه، دول شوية عيال عملاء وبتوع أجندات أجنبية..
ـ أجندات أيه يا ابو أجندات .. أنت بتصدق الكلام الزبالة اللي بتكتبه كل يوم ؟!
ـ أهي الزبالة دي يا اختي اللي بتأكلكم بغاشا .. على العموم لما ارجع ح أقعد مع كريم وافهمه كل حاجة، بس أبوس أيدك أبعدي عني الساعة دي..
لم يتيسر لراوي هذه الحكاية معرفة ما جرى بين كريم وأبوه في هذا اليوم، غير أنه كان حاضرا وشاهدا على ما حدث بعد يومين من إعلان إنخلاع مبارك .. يحكي الرواي أن صاحبنا المنافق كان مايزال قاعدا منجعصا في مكانه على كرسي رئاسة التحرير وبينما هو يعبث بقسوة في جثة الورق، ومض واحد من هواتفه النقالة فالتقطه بحبور ظاهر بعدما رأى أسم أم كريم يضئ الشاشة وبادرها قائلا:
ـ هيه ياستي .. خلاص كريم انبسط ورضي عني؟
ـ أنبسط ! .. ده أنا عمري ما شفت الولد في الحالة دي..
ـ ليه ؟! ألم يقرأ مقالي انهاردة؟
ـ المصيبة أنه قرأه ..
ـ مصيبة ليه ده أنا طَّلَعت (كذا) أم مبارك ونظامه !!
ـ يا أستاذ ابنك عايز يشيل اسمك من بطاقته الشخصية، وسألني لو كان ينفع يحط أسم أبويا (جده) مكان اسمك.
ـ إيه الجنان ده ؟! ..أمدح مبارك يزعل، أشتمه يزعل برضه.. هو أنا لا كده عاجب ولا كده عاجب ..!!
ـ الناس بيقولوله أبوك عاش منافقا وختمها بالندالة ..
(انتهت الحكاية ، وانظر حولك أرجوك).