على هاشم
شهيب.. خلاصة كفاح 50 عاما في بلاط صاحبة الجلالة
لأننا مجتمع يطارده الإرهاب والفساد والانقسامات ولأن ثورة يناير أصبحت الآن حدثا تاريخيا له ما له وعليه ما عليه فإننا ينبغي أن نفسح المجال أمام كلمة التاريخ وأحكامه الموضوعية المبنية علي الوثائق السليمة والحقائق الثابتة لكي نستطيع الحكم الصائب علي الأشياء والأحداث والمواقف ولعل كتاب زميلنا الكاتب الصحفي الكبير عبدالقادر شهيب الذي يحمل عنوان "نصف قرن قتال في بلاط صاحبة الجلالة" والذي جاء في 739 صفحة تحوي 12 فصلا يمثل محاولة جادة ورصينة لتسجيل هذا التاريخ حيث انطلق من الخاص إلي العام من السيرة الذاتية للمؤلف ومعاركه في بلاط صاحبة الجلالة التي أمضي فيها نحو 50 عاما من مشواره المهني إلي تحليل السياق العام الذي أحاط بحياة كاتبنا وكفاحه ومواقفه المهنية والإنسانية.
توقيت الكتاب جاء مناسبا في ظل ما يعانيه صحافتنا وإعلامنا من ممارسات جعلت تقدير الجمهور لهما محل شك كبير حيث تخلي بعض أصحاب المهنة عن الرسالة النبيلة وجعلوها "أكل عيش" وارتزاق وسباقا نحو خدمة مصالحهم الشخصية أو مصالح أسيادهم من أصحاب المال والسلطان أو تصفية الحسابات ومن ثم غابت عن أجنداتهم أولويات وطنية مثل بناء الوعي الصحيح والمعرفة والتثقيف ومحاربة الإرهاب والجهل . والتصدي لقضايا الوطن والمواطن وهمومهما وأوجاعهما ولا عجب في ظل هذا المناخ المسموم بالتراشق والتخوين والانقسام أن يقل المبدعون في حقل الإعلام والصحافة رغم كثرة المنتسبين لهما وأن تصبح المهنة مشاعا ونهبا لمن لا مهنة له . حتي أصبحنا أمام ظاهرة الممثل المذيع ولاعب الكرة الإعلامي فتراجعت المهنية وتلاشت المصداقية.
كتاب عبدالقادر شهيب رحلة شائقة في أحداث الزمن الجميل زمن المعارك الوطنية والقضايا الكبري بدءا من محاربة الاستعمار حتي جلائه عن ترابنا الوطني مرورا بثورة يوليو وتحولاتها الاجتماعية والاقتصادية وحروب مصر المعاصرة وصولا لثورة يناير و30 يونيو.
يقول المؤلف كانت رحلتي في بلاط صاحبة الجلالة ممتعة للغاية رغم الأوقات الصعبة التي مرت عليَّ فيها كافحت وقاومت بقلمي كثيرًا من الأخطاء والخطايا وخضت قتالا صحفيا مستمرا لا يتوقف . لقد قاتلت بقلمي كل معارك وطني في كل المراحل والظروف. قاومت الآثار النفسية الوخيمة لهزيمة يونيو القاسية في 67 .. وواجهت كل محاولات التدخل الأجنبي في شئونه لفرض الهيمنة عليه وتقويض دولته الوطنية وسلبنا هويتنا .. وتصديت بقلمي للظلم الاجتماعي الذي تسبب في زيادة أعداد الفقراء سنة بعد أخري في مقابل زيادة ثروات الأغنياء وتصديت أيضًا للفساد الذي عانت منه بلادي . وكانت له أشكال مختلفة ومتنوعة أتاحت لقلة أن تنهب خيراته وأن تعوق انطلاقه وأن تحرم الأغلبية الساحقة من حقها في نصيب عادل من ثروات بلادها ومستوي معيشي آدمي وقاومت تطرفا دينيا كان يتسبب لنا بين الحين والآخر في حوادث فتنة طائفية وصدمات دينية وأخرج لنا وحوشا آدمية تقتل وتخرب وتدمر وتحرق وتسعي لفرض حكم فاشي مستبد علينا. وسلبنا هويتنا الوطنية وكل هذا القتال المتواصل في بلاط صاحبة الجلالة كان رغم تكلفته ومتاعبه ممتعا ولذلك سوف أواصله ما دمت قادرًا علي استخدام قلمي وأستطيع أن أكتب.
يواصل المؤلف حديثه عن حصاد مشواره الحافل في بلاط صاحبة الجلالة فيقول استمتعت بتحقيق الانتصار في حملات صحفية استمر بعضها شهورًا بل سنوات . استهدفت صالح الوطن وأهله واستمتعت أيضًا باحترام وتقدير أحظي به أينما ذهبت» لأنني حريص دائمًا علي أن أكتب ما أنا مقتنع أنه يخدم وطني ورفضت أيضًا التربح مما أكتب . وتمسكت بمصداقية يعتبرها البعض موضة قديمة . واحترامي للذات يراه البعض نوعًا من السذاجة وكم أشعر بالاطمئنان لأن القارئ يستطيع أن يفرز السمين من الغث وكم أشعر بالامتنان لتقدير واحترام أحظي به من كُتَّاب كبار وصحفيين شباب.صحيح أنني جلبت لنفسي عداءً هنا وكراهية هناك . لكني لم أفقد. رغم ذلك احترام من أضمرَ لي عداءً أو أخفي لي كراهية . وهكذا رغم المتاعب والمعاناة ظفرت بأعظم ثروة لا تتبدد ولا تضيع أبدًا إنما تتضاعف إنها الاحترام الوافر وهذه الثروة هي التي يجب أن يتمسك بها الكاتب والصحفي والإعلامي طول حياته وليست المناصب والمنافع والأموال.
ويشخّص المؤلف علل صاحبة الجلالة التي أمضي في بلاطها نحو 50 عامًا. ويضع خارطة طريق للخروج من محنتها الحالية حيث يقول : لا أدعي أنه لم تكن لي أخطاء فَجَلَّ من لا يخطئ » لكني لم أكتب إلا ما هو صحيح من معلومات» قلم يبحث عن الحقيقة ويتحري الصدق فيما يكتب حتي لو كان هذا الصدق صادمً. ولا أدعي أنني كنت حالة فريدة أو حتي نادرة. أو تنتمي للقلة في بلاط صاحبة الجلالة وإنما كنت ضمن كتيبة كبيرة وضخمة من أصحاب الأقلام الصادقة والنظيفة وهؤلاء هم الذين يحمون بكتاباتهم سمعة صاحبة الجلالة في مصر . وبهم سوف تسترد الصحافة المصرية حيويتها وتأثيرها. وستتغلب علي كل المشاكل التي تعاني منها والصعوبات التي تواجهها بالصدق سوف تسترد صحافتنا عافيتها . وبالتمسك بمبادئ وقيم المهنية وقواعدها سوف تتجاوز صحافتنا مشاكلها بالتخلص من القلة التي انتمت إليها وتسئ إلي سمعتها .. سوف تصنع صحافتنا مستقبلاً أفضل لها فلا مكان في صحافة عريقة مثل صحافتنا لصحفي كاذب أو مخادع أو مبتز أو متربح أو يبيع قلمه لمن يدفع أكثر.
ثم يدلف بنا الكاتب إلي عالمه الخاص ومعاناته مع مهنة الصحافة بقوله: اخترت العمل في الصحافة. ولم أقبل بجواره عملاً آخر علي غرار ما فعل البعض فلم أسمح بوجود شريك آخر في حياتي غير الصحافة التي وقعت في غرامها ووهبتها حياتي كلها وأخلصت لها بالسعي والاجتهاد واحترام القارئ لقد عانيت علي مدي نصف قرن في بلاطها الكثير من المتاعب ولم يكن طريقي مفروشًا بالورد وواجهت فيه دسائس ومؤامرات خبيثة وتعرضت للفصل مرات والهجوم من زملاء لذلك مرت علي فترات وأنا أعاني من شح في الدخل والمال وهكذا مسَّ شهيب وترا حساسا حيث يعاني السواد الأعظم من شباب الصحفيين وربما شيوخهم من ضآلة ما يتقاضونه في ظل ما نشهده من ظروف اقتصادية صعبة . والدخول الضعيفة للجماعة الصحفية مقارنة بغيرها من الفئات كالأطباء أو القضاة أو غيرهم .
ويقترب بنا شهيب أكثر من مجتمع صاحبة الجلالة فيقول الصحافة هي مرآة المجتمع نجد فيها كل شيء الطيب والخبيث الصالح والطالح الجميل والقبيح الصادق والكاذب . الملاك والشيطان كل ذلك تنطق به وتسجله صفحات المطبوعات الصحفية . والقارئ فطن يفهم ويقيّم دائمًا الصحفيين والكتّاب . غير أن الصحافة لا تخلو أيضًا ـ مثل المجتمع ـ من غش وخداع ومؤامرات صغيرة ودسي ووقيعة غير مسجلة في كلمات مكتوبة » لأنها تتم دون استخدام القلم الذي عادة ما يشهد علي صاحبه .فكم من صحفيين يدّعون أنهم أهل الفضيلة. وهم يتمرغون في وحل الرذيلة . وكم من صحفيين يدّعون أنهم أتقياء وهم يستخدمون الصحافة في الابتزاز والتربح وتكوين الثروات .. كل ذلك عايشتُه وعانيتُ منه خلال هذه السنوات الطويلة .. وفي المقابل شاهدت أيضًا نماذج صحفية مضيئةً ورائعة علموني أن الصحفي الحق الذي يحترم القارئ ولا يغشه ولا يخدعه ولا يغرر به وإنما يصدقه القول ويقدم له الحقيقة غير مشوهة ولحسن الحظ فإن هذه النماذج هي الغالبة في صحافتنا.
وينطلق المؤلف من سيرته الذاتية إلي تاريخ هذا الوطن حيث يقول: مشواري الصحفي حافل بالكثير الذي يمكن روايته » لأنه يفيد أيضًا من خلال تتبع فترة حافلة من تاريخ مصر. بدأت بصعود كبير لها إقليميًا ودوليًا فصارت قبلة أحرار العالم أعقبتها هزيمة قاسية مريرة تركت آثارها المؤلمة غائرة في نفوسنا ثم حرب بارعة في أكتوبر 1973 حققنا فيها انتصارًا عزيزًا فتح الباب لاسترداد أرض سيناء . وبعدها بأربع سنوات فقط زيارة دراماتيكية للرئيس السادات لإسرائيل كان لها تداعياتها التي بدأت باغتيال السادات أثناء حضوره العرض العسكري في ذكري حرب أكتوبر. وتمخض ذلك بعد تولي نائبه مبارك دفة الحكم عن خوض حرب ضد جماعات الإرهاب . كما خاضت مصر أيضًا مواجهة أخري للخروج من أزمة اقتصادية طاحنة وإذا كانت البلاد قد حظيت مع الألفية الجديدة بقدر من التعافي الاقتصادي إلا أنها افتقدت الاستقرار الاجتماعي لأن الأغنياء القادرين استأثروا وحدهم بمعظم العائد الاقتصادي. وخرج الفقراء من مولد الإصلاح الاقتصادي بلا حمص .
يضيف شهيب: افتقدت البلاد أيضًا الاستقرار السياسي بسبب طول مدة بقاء مبارك في الحكم وغموض المستقبل السياسي للبلاد في ظل تزايد مساهمة جمال مبارك في إدارة شئون البلاد والدعوات التي انطلقت علنًا من مقربين منه لتوريث الحكم . وتمخض عن ذلك الانتفاضة الشعبية في 25 يناير والتي استثمرها الإخوان والأمريكان معًا » الإخوان لتحقيق حلمهم بالوصول للسلطة. والأمريكان لتنفيذ مخططاتهم التي أعدوها للهيمنة علي منطقتنا. وعلي رأسها مصر حتي قامت ثورة 30 يونيو وأوقفت هذا المخطط كل هذه الوقائع المهمة التي عاشتها مصر صنعت لي في مشواري الصحفي محطات مهمة ابتداءً من دخول صاحبة الجلالة وحتي استقالتي من رئاسة دار الهلال واستمراري بعدها في القتال الصحفي ضد فاشية الإخوان ولا يمكن فصل ما حدث في مشواري الصحفي عن تاريخ بلادي.. انتهي كلام شهيب الذي أري أن كتابه القيم جدير بالقراءة والتمعن يساعد علي ذلك بساطة أسلوبه وعمق تناوله للقضايا وجدية ما يحويه من أحداث ومشاهد وتجارب ودروس وعبر تشتد حاجتنا إليها في هذه الأيام الصعبة وتعظم حاجة شباب الصحفيين إلي استلهام مثل هذه المعاني لإنقاذ مستقبل هذه المهنة التي فقدت للأسف بفضل كثرة الدخلاء عليها كثيرًا من بريقها وتأثيرها والأهم مصداقيتها ومن ثم تحتاج لبعث جديد واستنهاض الهمم لإعادتها إلي مجدها القديم.