الأهرام
محمد ابو الفضل
سيمفونية واحدة لا تكفي
الطريقة التي يدير بها الرئيس عبدالفتاح السيسي حواراته مع الشباب ولقاءاته مع النخبة الثقافية، تؤكد أنه علي استعداد للاستماع لرؤي مختلفة،
ويستوعب الآراء المعارضة لسياساته، ولديه قدرة ومرونة علي تفهم أسباب ودواعي انتقاد المسئولين، ويملك حنكة كبيرة في البحث عن حلول شافية وسريعة لها.

في المقابل، نري ضيقا من النقد الذي يوجه لآخرين، وافتقادا لرجاحة العقل أحيانا، ومقدرة عجيبة علي التهرب من وسائل الإعلام، وأكثر من ذلك العمل علي زيادة الحواجز التي تفصل بينهم والإعلام، ربما تكون هناك تجاوزات ارتكبها بعض الزملاء، لكنها في النهاية لا تعني الضيق والضجر والخصام والمقاطعة، لأنها سوف تسمح بنشر وإذاعة وترويج تخمينات ومعلومات ليست دقيقة، تفتح الباب لمزيد من البلبلة والشوشرة والأزمات، أو الاستسلام لوجهات نظر المسئولين، ثم يتحول البعض إلي «ملكيين أكثر من الملك» كما يقول المثل الشعبي.

التجربة علمتني أنه لا توجد جهة رسمية تملي تعليمات بعينها، وإن قامت بواجبها وأعطت عناوين عامة في قضايا محددة، فإن كل مسئول في أي مؤسسة، إعلامية أو غير إعلامية، يطوعها وفقا لمروحته الثقافية والفكرية، فالحفاظ علي المصالح الوطنية لا يتعارض مع إتاحة هامش معتبر للحرية، والولاء ليس المقصود منه الطاعة العمياء، ونيل الثقة لا يراد منها تنفيذ الأوامر بلا تدبر وتدقيق، كما أن الترقي في المناصب يكون بوقف التدهور وزيادة مساحة التقدم والتطوير.

لكن يبدو أن هناك من يرتاح، ولو ضمنيا، لصيغة تنفيذ التعليمات بأكثر مما يجب، خاصة من جانب قطاع يعمل في وسائل الإعلام أو يمتهن العمل السياسي، ولم يعد من الغريب أن يعزف كثيرون سيمفونية (مقطوعة) واحدة، منهم من يعزفها في هدوء فتأتي معقولة وفي سياقها، ومنهم من يؤديها عبر الصمت عن التجاوزات وتجنب الانتقادات، ومنهم من يعزفها بصخب، من خلال السعي لتزيين وتسويق توجهات وممارسات لعدد من المسئولين، وهذا الشق أصبح خطيرا، لأن تعمد تسليط الأضواء والمبالغة في تحسين صورة هذا المسئول أو ذاك والبعد عن الموضوعية، تقلل من قدره وتؤثر علي انجازاته الحقيقية.

الاستجابة للإشادة مسألة إنسانية يطرب لها كثير من الأشخاص، لكن عندما تتحول إلي حالة عامة تفقدها المصداقية المطلوبة، كما أن تجاهل الإيجابيات ليس في مصلحة الدولة، لذلك يجب أن تكون النظرة بشرية وعقلانية، تنطوي علي إشادة ونقد معا لمزيد من التحسن والتقدم، أما أن تتسابق الغالبية الإعلامية والسياسية والاقتصادية للتفنن في وصلات النفاق والرياء والتضخيم فهذه أكبر مصيبة يمكن أن تواجه بلدا يسعي إلي النهضة والقيادة والريادة.

الصوت الواحد يكون صداه واحدا أيضا وينحصر في أصحابه ومريديه، ويؤدي إلي توسيع نطاق السياسات الخاطئة، فإذا لم يجد المسئول نقدا من هنا وتصويبا من هناك، سيواصل المضي في طريق الخطأ، ومن يتعللون بطبيعة الظروف والأجواء والمكايدات والتحديات، عليهم إدراك أن التلاحم الوطني لا يعني الانسجام والتوافق والتقارب والانسحاق، فكل شخص يستطيع خدمة هذا البلد بالطريقة التي يري أنها مناسبة، في حدود الالتزام بالقانون والدستور والثوابت المتعارف عليها، وأي تضييق مقصود أو غير مقصود يمكن أن يفضي إلي زيادة معدل المشكلات وليس حلها.

من ينظر إلي الطبقة السياسية الظاهرة علي السطح يجدها تتسابق في مدح الإجراءات التي تتخذ، حتي لو كانت مليئة بالعيوب والفجوات والثغرات، وأعجبني سيدة وفتي أسوان، عندما بث كل منهما شكواه في حضور الرئيس خلال مؤتمر الشباب أخيرا، الذي أعطي درسا قويا لمن يعتقدون خطأ أن سياسة «كله تمام» وسيلة ناجحة للاستمرار في المناصب أو الاقتراب من دوائر صناعة القرار، وقد فاتهم أن هناك وسائل متعددة يتسرب منها الكلام.

ربما ساعد القدر هذه السيدة وهذا الفتي في توصيل صوتيهما للرئيس مباشرة، وهو ما يعني أنهما (وغيرهما) فقدا الثقة في بعض نواب الشعب، ولم تعد وسائل الإعلام تحتل مكانة رفيعة لتوصيل الأصوات التي أصبح كثيرون يعتبرونها «نشازا»، والطريقة التي تعامل بها الرئيس السيسي تحمل رسالة لكل من تسول لهم أنفسهم الإصرار علي تقديم صورة غير حقيقية، أو اختيار الجانب المضيء فقط، فإذا لم يتم التركيز علي السلبيات لن ينصلح حال البلاد، ولن يشعر الناس بأن هناك جهودا تبذل ومشروعات تنموية تنتشر في ربوع مصر، والأخطر أن ثقتهم فيما يبذل من أجل المستقبل سوف تتراجع، وقد تتواري في خضم حفلات المدح ووصلات الردح.

يقيني أن مصر تواجه تحديات مختلفة، والوصول إلي درجة متقدمة من الديمقراطية أمامه أشواط كثيرة صعبة ودقيقة، لكن يقيني أيضا أن تحولنا جميعا إلي صوت يطرب لترديد مقولة «كل شيء علي ما يرام» يمكن أن يؤدي إلي مشكلات أشد وطأة، فالإشارة إلي العيوب والأخطاء وتقبل الانتقادات، أفضل من الإشادة بالإيجابيات، ولفت الأنظار إلي التجاوزات والإخفاقات أهم من عدم التوقف عند العقبات، فأي دولة مثل مصر لديها إرادة وطموحات، تسعي إلي تصحيح عيوبها أولا بأول، وزيادة جرعة الحريات وفقا للضوابط التي حواها الدستور.

قطاع كبير من المصريين يدرك ويعي أن سعة صدر الرئيس السيسي أوسع بكثير من مسئولين وإعلاميين يتشدقون بذريعة دفاعهم عنه، وادعائهم كذبا أن مصلحة البلد تستوجب تضييق الخناق وحجب الأصوات المعارضة والتشهير الفج بأصحابها، والاكتفاء بالصياح والصراخ والضجيج، في حين المصلحة الحقيقية تتطلب ضرورة التدقيق في الجانب الخفي من الصورة، لأنها (الصورة) سوف تكون أحلي وأوقع عندما يتم النظر إليها من زوايا متعددة.

الواقعية التي نتمني أن تسود في معالجة القضايا والملفات المهمة، تنبع أهميتها من قطع الطريق علي تزايد اللجوء إلي العالم الافتراضي ومواقع التواصل الاجتماعي التي تعج بمعلومات واجتهادات خاطئة، يستثمرها البعض في تشويه الصورة العامة لمصر، وينقلها من الدرجة الرمادية التي نعيشها الآن إلي حالة غريبة من الظلام، وبالتالي إيجاد بيئة ضارة بالتوجهات والأمنيات، ولأن مصر تستحق مكانة مؤثرة في المحيط الخارجي، فلابد أن تكون هناك سيمفونيات سياسية وإعلامية عدة، لكي يتضح الخيط الأبيض من الأسود.

تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف