كان الصحابة، رضي الله عنهم، يحبون الشتاء حبًّا شديدًا، كعادتهم في حب كل ما يؤدي إلى طاعة الله، أو يكون سببًا في تحصيلها، وليس أعظم من الشتاء في ذلك؛ إذ كانوا، التزامًا بسنة النبي، صلى الله عليه وسلم، يكثرون من قيام ليله، وصيام نهاره، وإسباغ الماء البارد على المكاره من أجسادهم، فضلا عن عبادة اجتماعية هي التصدق بفضول ملابسهم، إعانة للفقراء والمساكين، على توقي شدة برده.
كان الصحابة، رضي الله عنهم، يرون أن صيام نهار الصيف يعدل قيام ليل الشتاء، في الأجر، والثواب.
فقد رُوي عن ابن مسعود، رضي الله عنه، أنه قال: "مرحبًا بالشتاء.. تنزل فيه البركة، ويطول فيه الليل للقيام، ويقصر فيه النهار للصيام".
وكان فقدان ذلك أحد أسباب بكاء معاذ، رضي الله عنه، عند موته؛ إذ قال: "إنما أبكي على ظمأ الهواجر، وقيام ليل الشتاء، ومزاحمة العلماء بالركب عند حلق الذكر".
وعن الحسن قال: "نِعْم زمان المؤمن الشتاء، ليله طويل يقومه، ونهاره قصير يصومه".
وفي اتساع وقت الليل لقراءة القرآن في الشتاء، ورد عن عُبيد بن عُمير، أنه كان إذا جاء الشتاء، يقول: "يا أهل القرآن: "طال ليلكم لقراءتكم فاقرءوا، وقصر النهار لصيامكم فصوموا".
ولإيثار الفقراء في الشتاء، بما يدفع عنهم غائلة البرد، أجر عظيم. فعن جرير بن عبد الله، رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من لا يرحم الناس لا يرحمه الله". (متفق عليه).
وعن ابن عمر، رضي الله عنهما، أن رسول الله، صلى الله عليه وسلم، قال: "من كان في حاجة أخيه كان الله في حاجته، ومن فرّج عن مسلم كربة فرج الله عنه كربة من كرب يوم القيامة". (متفق عليه).
وعن أبي هريرة، رضي الله عنه، عن النبي، صلى الله عليه وسلم، قال: "من نفّس عن مسلم (أي: فرج عنه) كربة من كرب الدنيا نفّس الله عنه كربة من كرب يوم القيامة (الكربة: ما أهمَّ النفس، وأغمَّ القلب)، ومن يسَّر على معسر يسَّر الله عليه في الدنيا والآخرة". (متفق عليه).
وروى ابن أبي الدنيا بإسناده عن ابن مسعود، رضي الله عنه، قال: "يُحشر الناس يوم القيامة أعرى ما كانوا قط، وأجوع ما كانوا قط، وأظمأ ما كانوا قط، فمن كسا لله عز وجل كساه الله، ومن أطعم لله أطعمه الله، ومن سقا لله سقاه الله، ومن عفا لله عفا الله عنه". (رواه ابن أبي الدنيا في "كتاب الأهوال").
وغير بعيد عما سبق، ما شرعه الله تعالى لعامة خلقه من دفع ما يجدون من أذى البرد، باللباس، وغيره مما يبعث على دفء الجسد.
فقد امتن تعالى على عباده بأن شرع لهم الاستفادة من أصواف بهائم الأنعام، وأوبارها، وأشعارها، ما فيه دفء لهم، فقال: "وَالأنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَّمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ". (النحل: 5).
وفي هذا السياق، روى ابن المبارك، عن صفوان بن عمرو عن سليم ابن عامر قال: "كان عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، إذا حضر الشتاء تعاهدهم، وكتب لهم بالوصية إن الشتاء قد حضر، وهو عدو، فتأهبوا له أُهبته من الصوف والخفاف والجوارب، واتخذوا الصوف شعارًا ودسارًا، فإن البرد عدو سريع دخوله.. بعيد خروجه".
و"إنما كان عمر يكتب بذلك إلى أهل الشام لما فُتحت في زمانه؛ إذ كان يخشى على منْ بها من الصحابة وغيرهم ممن لم يكن له عهد بالبرد أن يتأذى ببرد الشام، وذلك من تمام نصيحته، وحُسن نظره، وشفقته، وحياطته لرعيته، رضي الله عنه". (الحافظ ابن رجب الحنبلي، "لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف").