الأهرام
السفير محمد حجازى
«سد النهضة» و «اتفاقية عنتيبى» حلول مقترحة للأزمتين
الثابت علميا ان احواض الانهار هى نظم ووحدات متكاملة ، فنهر النيل نظام متكامل لابد وأن يتم التعامل معه كوحدة طبيعية يجب ان تدار موارده المائية
بشكل جماعى متناسق وكذلك تنمية موارده الزراعية والصناعية بل والاجتماعية والبشرية والثقافية ، والواقع أن إستراتيجية إدارة الموارد المائية فى ظل تخطيط متكامل وشامل هو وحده الكفيل بحفظ النظام الطبيعى للنهر، ويحقق مصالح كافة دول الحوض ويحول دون الصراع والمواجهة.

وأمامنا فى هذه المرحلة من عمر النهر وتاريخه المجيد منعطف تاريخى مهم فى علاقة مصر والسودان بدول المنابع، وأثيوبيا على وجه الخصوص، وما أكدته فى مقالات لى سابقة أن لها الحق فى التنمية ولكن لمصر كل الحق فى الحياة، فالنهر بالنسبة لها والسودان ضرورة وجودية قبل أن يكون رافداً تنموياً، لذا فعلينا فى هذه المرحلة أن تتكاتف جهودنا الدبلوماسية والبرلمانية وقدراتنا القانونية والفنية لصياغة موقف مصرى مستقر وثابت، يأخذ فى حسبانه ايجاد الصيغة الامثل للتعامل مع سد النهضة من خلال قيام الدول الثلاث معا وبمساندة من باقى دول الحوض كلة لصياغة معادلة مرضية تسمح برؤية متكاملة للتنمية العادلة تضع مصالح الأطراف الثلاث فى الحسبان، ووفقاً للقواعد القانونية الراسخة، وبما يسمح بتنمية النيل الأزرق لصالح دوله، ويكون واضحاً أن مصر لا تقف ضد أى مشروع تنموى ما دام لا يضر بمصالحها، وعليه يتم السعى وفى إطار متابعة دراسة الشركتين الفرنسيتين اللتين يعكفان حالياً على دراسة الآثار البيئية والإضرار التى يمكن أن يسببها السد لدولتى المصب والسودان، وتحديد معدلات التخزين المثلى والمدة الزمنية المطلوبة بحيث لا يضر لا حجم تخزين ولا معدلة بشكل مجحف بالدولتين مصر والسودان، وكذلك معدلات التصريف المثلى والتى تراعى مصلحة البلدين وتسمح لأثيوبيا بمعدل تخزين يسمح بتوليد الكهرباء الممكنة وفقاً للتدفق الطبيعى للنيل الأزرق حالياً وبقدر الإمكان نفس معدل التصريف خلف سد الرصيرص بالسودان، وقبل تلاقى النيلين عند الخرطوم، كما يلزم ايضا قياس موازى لمعدل التدفق الحالى خلف سد مروى فى السودان قبل وصول النيل عند أسوان ضماناً أيضاً لالتزام السودان باتفاقية 1959 واستمرار معدل التصريف الحالي، وهو مايجب ان تقوم به بعثات فنية ثلاثية مقيمة بمواقع السدود تدير وتشرف على تطبيق نظام تشغيل متناسق ومتفق عليه للسدود فى البلدان الثلاث وفقا لاتفاق قانونى وفنى ملزم .

يمكن أيضاً ومن خلال المشاورات الثلاثية وفى تداولنا مع الشركتين الفرنسيتين الإيعاز بإمكانية البناء والتشغيل والتخزين على فترتين زمنيان حتى لو تم الانتهاء من البنيان الخرساني، الأولى الآن وتشمل معدل تخزين ملائم وليكن كما كان مخططاً لسد الحدود فى حدود 14 مليار متر مكعب تدير المرحلة الأولي .

يجب على مصر كذلك أن تسعى من أجل أن يكون خيار التعاون جاذباً للجانب الأثيوبى وللسودان من خلال التقدم بمشروع للتعاون الإقليمى أو “ممر التنمية الشرقي”، فإذا ما تم الاستقرار على مقاييس بناء وتخرين وفقاً لنطاق زمنى مناسب ودون الإضرار بالمنشآت الهندسية والسدود فى السودان ومصر ، وفقاً لنظام محاكاة على الكمبيوتر يحقق التوازن ويحدد نسب التخزين التى لا تضر وتتكامل بين السدود فى البلدان الثلاث. فيتم الاتفاق على اقامة مشروع تنمية تكاملى يهدف لربط البلدان الثلاث نسميه «ممر التنمية الشرقي» ويبدأً من سد النهضة والمتفق على التنسيق بينه وسدود السودان ومصر والتعاون فى ادارته بمقاييس ومعدلات متفق عليها، بشبكة ربط كهربائى بين البلدان الثلاث، وستكون ذات عائد للسودان ولمصر يسمح باستخدام طاقة نظيفة وتوظيفها فى صناعاتهما أو تصديرها، وإنشاء طريق برى وخط للسكك الحديدية عابراً للحدود حتى الخرطوم ثم لأسوان فى حدود 940 كيلو متر (40 كيلو مترا من موقع سد النهضة – 900 كم حتى أسوان مارا بالخرطوم) مما يسمح لأثيوبيا كدولة حبيسة بتصدير سلعها وباقى الأنحاء وعبر موانى الأحمر والمتوسط وهى ميزة لدولة حبيسة جغرافياً مثل أثيوبيا.

ما يشجع على هذا الطرح أيضاً أن حديثاً عملياً وجدياً بات اليوم يشمل إنشاء طريق نقل بحرى عبر بحيرة فيكتوريا للمتوسط وتدرس مصر مع بيوت خبرة عالمية هذا الملف، مما يجعل ربط النيل الازرق بهذا المشروع أقصد أثيوبيا حيث سيمر المشروع القادم من فيكتوريا بالسودان لتستقبل أيضاً “ممر التنمية الشرقي” المقترح ، أى المشروع القادم من أثيوبيا وعليه تكون الخرطوم نقطة التلاقي، للمشروعين الإقليمين، ممر التنمية الشرقى القادم من الأراضى الأثيوبية ومشروع ربط بحيرة فيكتوريا بناقل بحرى للمتوسط خاصة مع ماابدتة اثيوبيا من اهتمام بمشروع فيكتوريا- المتوسط , ولاحقا وضمن رؤية التعاون الاقليمى الشامل تلك يكون من بين أهداف التعاون مع جنوب السودان هو الانخراط فى مشروعات تقليل فواقد مياه النيل واقامة مشروعات تنموية فى الجنوب، وأخذا فى الاعتبار ما يمكن تنفيذه هناك فى إطار مبادرة حوض النيل الأشمل.

وتتفق رؤية التعاون الإقليمى المقترحة فى إطار مشروع تكاملى يجمع دول شرق النهر مع إعلان المبادئ المهم الذى وقعه الرؤساء المصرى عبد الفتاح السيسي، والسودان عمر البشير، ورئيس وزراء أثيوبيا هابلى ماريان دتسالين خلال قمتهم فى الخرطوم فى 23/3/2016 وتضمنت وثيقة إعلان المبادئ تلك لسد النهضة.

يتفق ما نطرحه بشأن التعاون الإقليمى مع دول حوض النيل الشرقى ودول حوض النيل عموماً مع التوجه الدولى لتمويل مشروعات متعددة الأغراض وكذلك التى تخدم أكثر من دولة، ويترقب المانحون منذ إعلان مبادرة حوض النيل لتوافق دول المبادرة وهو ما لم يكتمل حيث أصرت دول المنابع على التوقيع منفردة على اتفاقية عنتيبي، مما أبقى الاتفاق الذى كان منشوداً أن يتحول لاتفاق إقليمى شامل لدول المنابع والمصب معاً لمجرد اتفاق حاليا ممكن وصفه بأنه بات شبه إقليمى للتنسيق فقط بين دول المنابع مما جعله قاصراً عن جذب استثمارات دولية ودعم كان مرتقباً من الشركاء.

كانت مفاوضات عنتيبى لصياغة الإطار القانونى والمؤسسى للتعاون بين دول حوض النيل تمر عام 2006 بصعوبات جمة، حيث تم التوافق تقريبا على جميع بنود الاتفاقية عدا ثلاث نقاط أساسية مرتبطة بالأمن المائي، والإخطار المسبق، والتعديل بأغلبية الثلثين، وكان موقف مصر المبدئى من النقطة الأولى والأهم هو الحفاظ على حصة مصر المائية الراهنة.

عاد الوفد الأوغندى بمقترح وسط يجمع بين مصالح وأهداف مصر، ومواقف باقى دول المنابع المتطلعة للتنمية والتى تأمل ألا يؤثر عليها تقديم أى تنازل قد ينال من طموحاتها، وقدم الوفد الأوغندى آنذاك صياغة لمفهوم الأمن المائى بالفقرة رقم (14 ب) قائمة على أساس عدم الاضرار بالاستخدامات الحالية (مصر والسودان- اى حصتنا المائية) واضاف الاوغنديين والاستخدامات المستقبلية (حق دول المنابع فى إقامة مشروعاتها التنموية المستقبلية).

مرت أسابيع قليلة وصدرت مؤشرات سلبية من أديس أبابا وأنها لم تكن راضية عن هذا الحل الوسط وأنها ليست جزءا من هذا الإجماع، ودعت دول المنابع مجددا لاجتماع فى رواندا، مما أعاد الوضع لما هو عليه وجذر للخلاف القائم حتى اليوم دون حل للفقرة 14ب الخاصة بالامن المائي، وبدأت الفرقة الناشبة بين مصالح دولتى المصب ودول المنابع والتى حالت دون تصديق مصر والسودان على الاتفاق الإطارى وتجميد نشاطها داخل مبادرة حوض النيل والتى اتخذت مقرها فى مدينة عنتيبى الأوغندية، وبعد أن كان مأمولا أن تتحول المبادرة لمنظمة شبه إقليمية جامعة لجميع دول حوض النيل، قبعت فى المساحة المحدودة الراهنة كمعبر عن مصالح دول المنابع دون دول المصب، وهو ما أدى لإحجام واضح فى المساندة والدعم الدولى الذى كان مقررا لتعزيز فرص التعاون الإقليمى الشامل فى إطار حوض النيل كله لا بعض أجزائه.

والجديد فيما اطرحة الان وقد يحدث الفارق ويؤدى لانفراجة، هو انه ما كانت الأحداث قد توالت، وجدت أمور وطرأت مستجدات فى العلاقات المصرية الأثيوبية، والمصرية الأوغندية ومع باقى دول حوض النيل، ومنها أن أثيوبيا فى طريق استكمال مشروعها التنموى المتمثل فى سد النهضة (والجارى بحث إثاره على مصالح مصر والسودان من قبل الشركتين الفرنسيتين) والمأمول أن تسهم تلك الدراسة فى المواءمة بين مصالح اثيوبيا و مصر والسودان، وهو أمر ممكن بل وحتمى.

ترتبط تلك النقطة أيضا بالتفاهم الإستراتيجى المتنامى بين مصر وأوغندا، واللقاء الأخير للرئيسين عبد الفتاح السيسى ويورى موسيفينى فى كمبالا ، وتولى موسيفينى رئاسة مبادرة حوض النيل وتعهده ببذل مساعيه لتقريب وجهات النظر بين دول حوض النيل، لإطلاق طاقات المبادرة الأهم فى تاريخ الحوض.

وحتى تنطلق منظمة إقليمية جامعة للنهر تسعى من أجل تنمية دوله، فقد يرى مفاتحة الجانب الأوغندى فى إمكانية معاودة النظر فى طرح المقترح الأوغندى مجددا وفقا للصياغة التى تم اعتمادها فى بوجمبورا، فى ضوء تغير الظروف وما تم إنجازه فى مسار العلاقات النيلية، والعلاقات المصرية الأثيوبية رغم كل ما يعتريها أحيانا من حساسيات فقد قطعت أشواطا فى بناء الثقة والجسور، حيث أن رفض أثيوبيا وقتها للمقترح كان مبنيا على توجه أن يرتب التزام عليها قد يحول دون إقامتها لمشروعاتها المستقبلية، ولما كان الأمر الآن قد حمل لها أسانيد للاطمئنان لنوايا مصر ولقدرتها على السير فى مشروعاتها التنموية، فأن معادلة احترام مصالح مصر المائية دون إضرار، وهو مايمثل الأمن المائى للسودان ولمصر، يمكن ان تسير بالتوافق والتنسيق مع احترام حق أثيوبيا وباقى دول المنابع فى التنمية ،وهو مايمثل الأمن المائى لتلك الدول، وظنى أن جهدا مصريا أوغنديا سودانيا مع أثيوبيا بعقلية ما بعد سد النهضة .

قد يحدث انفراجة تعيد التماسك والتوافق لمبادرة حوض النيل مما سيخلق المناخ الإيجابى والثقة بين أطراف الحوض منبعا ومصبا، ويسهم أيضا فى ترطيب الأجواء بين مصر وأثيوبيا، لاسيما وأن داخل مبادرة حوض النيل هناك شق تنموى رئيسى متعلق بالتنمية المتكاملة لحوض النيل الأزرق المعروف باسم ENSAP وهو برنامج عمل مشترك بين مصر والسودان وأثيوبيا، بينما برنامج إطار التعاون الثانى هو لدول البحيرات الاستوائية NELSAP ويشمل بوروندي، الكونغو، كينيا، رواندا، تنزانيا، وأوغندا، وجنوب السودان، ومصروالسودان بالطبع .

ولوضع المقترح موضع التنفيذ تبدأ الجهات الفنية بمراجعة الصيغة الأوغندية، وتضمينها فى خطاب أو من خلال مبعوث لطرحها على الرئيس موسيفينى أو الجانب الأوغندى بعد تشاور مصرى سوداني، ويمكن فى توقيت مناسب معاودة طرحها على الجانب الأثيوبى كصيغة ملائمة اسهمت التطورات الزمنية والفنية والسياسية المتلاحقة فى توفير مناخ أكثر إيجابية من توقيت طرحها، بالإضافة إلى أنها تراعى بتوازن مصلحة دول المنابع والمصب على حد سواء، ودون افتئات أى جانب على الآخر، مع إبراز جدوى إطلاق احتفالية التوقيع لجذب المانحين والتعهدات الدولية الهامة بما يعود بالخير على الجميع، خاصة على الأقل نموا اقتصاديا ومائيا وأغلبهم من دول المنابع، حيث يمكن لسلطة مياه النيل أن تحقق فى محيط النهر مكاسب جمة لدولة، وللنهرذاته وبيئته، وللتعاون الإقليمي، بنفس القدر مثلا الذى حققت فيه سلطة نهر الميكونج فى جنوب شرق آسيا مشاريع تنموية لدوله المتشاطئة (كمبوديا-لاوس-فيتنام-تايلاند) بما يفوق قيمته نحو 22 مليار دولار لخدمة خطط تنمية جميع دول النهر، والذى أضحى رابطا للتعاون وليس سببا للخلاف والتوتر.
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف