المساء
حسن حامد
تعويم مصر
واحد شحات قاعد علي ناصية شارعنا. تعود أن يراني في الرايحة والجاية. وفي كل مرة أمر من أمامه يكرر علي مسامعي كلمة مستفزة بدلا من أن يطلب صدقة أو احسانا فيقول: "خربت". فكرت في أن أراقبه عبر عدد من الأصدقاء لأري هل يردد الكلمة نفسها كلما مر أحدهم أمامه أم يردد كلمات الشحاتين المعتادة. واكتشفت بالفعل أنني الوحيد الذي يقول له "خربت" بينما يقول لغيري الدعوات والتوسلات ليتعاطفوا معه فيتصدقوا.
في آخر مرة توقفت أمامه متعمدا وسألته: هي مين اللي خربت؟. فجاءت إجابته بما لم أتوقعه حتي في الخيال. وسألني: هم عوموا الجنيه ولا عوموا مصر يابيه؟. يعني انت شايفها كانت ايه وبقت ايه. علي سبيل الصحافة يعني والقلم الحر والرأي الجريء؟
ضحكت وانصرفت متأملا السؤال وأنا ابحث داخلي عن إجابة. كانت مصر الأزهر والأذان وجمال عبد الناصر ومحمد رفعت والنقشبندي ومقهي الفيشاوي وطبق رز بلبن عند سيدنا الحسين. وكانت مصر نجيب محفوظ والقلعة والفول والكشري والترام وقطار الدرجة الثالثة والورد البلدي والكورنيش ونسمة العصاري وشهر رمضان والعيد الكبير. وكانت مصر زويل ونصر أكتوبر وكوبري قصر النيل وجنينة الحيوانات وحليم وثومة وصلاة الفجر في جماعة. وكانت مصر الحب والجدعنة والتفاؤل والسهر وكيس الطرشي علي السحور. وكانت مصر الجار للجار ومن غشنا فليس منا والرغيف بتعريفة من غير طابور.
أما الآن فمصر اترزع واديها جاز وانجز وفوت علينا بكرة وازبهل وقشطة وامبوو وتلت ارغفة عيش ومتنكشنيش وما تحورش وابو شكلك وكبر دماغك وفسيخ ونفض وليلتك بيضا وعبوكو كلكو ويا حزني وفكك وكخ ونفض وتناكه واونطجي والبتاع وروق دماغك وفل وطعمية وبلح واحيه واشتغالة وحمرا والعوافي واربع تيام.
ومصر الآن يا سنة سوخة وايوه واديك بضهر ايدي وياختي كميلة وعشرومية وطريقك زراعي واحلق له وماشي ياعم الشباب وعاش وفاكس وقوطة وكله بلح وهبل في الجبل ومزة آخر حاجة وسيس ومعلشي ويحنن وبريزة واصطباحة وبنزيم وشاي فالخمسينة وصباحو وطنش وسكافونيا في الألمونيا وشندوتش وارفع راسك فوق انت مصري.. وهل أقول كمان؟
وقبل كل ذلك وبعده "خربت".
هذا هو الحال الذي باتت عليه مصر بعد تعويم الجنيه. فلا ثبات في أي شيء. وكل حاجة اليوم بسعر وبعد ساعة بسعر. وكأن مصر هي التي تم تعويمها أو كأن المصريين هم الذين باتوا معومين غصبا عنهم. ولا أحد يحاسب أحدا. ولا رابط ولا ضابط في أي أمر وليس هناك كبير نعمل حسابه. كما لم يعد نافعا ما تعلمناه في الصغر. بل ان ما تعيشه مصر الآن فوق طاقة البشر وفوق كل احتمال.
أخاف أن اصدق هذا الشحات الذي يتسول قوته وهو يردد أمامي كلما مررت به "خربت". أخاف أن افقد الأمل في أن يتحسن الحال ويرتاح الناس وتعود الأمور إلي سابق عهدها. أخاف أن يأتي اليوم الذي اردد فيه عن قناعة "خربت".
تعليقات
اقرأ ايضا
الصحف