رغم إعلان الرئيس الأمريكي ترامب الأخير بأنه لا يتعجل نقل السفارة الأمريكية إلي القدس فإن السفير الأمريكي قد انتقل فعلا إلي القدس.. ويقوم بأعماله الرسمية من شقة هناك كما كان السفير الإسرائيلي في القاهرة يؤدي واجباته من السفارة التي كانت في العمارة.. وهو ما يعني عمليا وواقعيا ورمزيا ودبلوماسيا ان السفارة الأمريكية في إسرائيل صارت في القدس.. ومع ذلك لم تصدر كلمة استنكار أو شجب من أية دولة عربية ماعدا السلطة الفلسطينية والأردن.
العرب متأكدون من أن ترامب جاد في تنفيذ وعوده.. وأن نقل السفارة بالكامل مسألة وقت لا أكثر.. فإسرائيل لن تصبر عليه كثيرا.. وإلحاح نتنياهو لن يهدأ.. والعناصر المتطرفة في انحيازها لإسرائيل التي أحاط بها نفسه تعتبر نقل السفارة انجازا تاريخيا وشعبيا يجب ألا يتأخر.. بينما الصمت العربي يبدو غريبا ومريبا.. ليس هناك أمام العرب ما يراهنون عليه.. فقد وصلوا إلي لحظة الحقيقة.. إما المواجهة وإعلان الرفض وإما الاذعان.
لقد أبهرهم ترامب بحربه القادمة ضد الإرهاب.. وشغلهم بقضايا وشعارات واطروحات تدفعهم إلي مزيد من الانقسام.. وفي ظل هذا الانقسام سوف ينسون أو يتناسون قضية القدس وقضية فلسطين.. وللحقيقة نجح ترامب حتي الآن في أن يجعل العرب في موقف الدفاع.. ويجعل كل دولة عربية مهمومة بما ينتظرها من مفاجآته.. وبالتالي ذهبت قضية القدس إلي الهامش ولو إلي حين.. حتي تستقر كل دولة علي موقفها ومكانها.. هل ستركب سفينة ترامب أم ستكون عرضة للطوفان.
الغريب أن صمت الدول العربية والقادة والزعماء إزاء قضية القدس امتد إلي المنظمات الحكومية وشبه الحكومية وغير الحكومية.. وامتد أيضا إلي الدول الإسلامية والمنظمات الاسلامية الدولية.. وكأن الصمت قد لف الجميع.. أو كأنهم اتفقوا علي الصمت الاستراتيجي.
وقد يتصور البعض أن هذا هو الصمت الذي يسبق العاصفة.. لكن حالة التمزق العربي والاسلامي لا تجعلنا أبدا نذهب إلي هذا الأمل الخادع.. إذ ليس هناك أي مؤشر علي أن هؤلاء القوم يجهزون أنفسهم لرد فعل حاسم.. أو لحظة بديلة يتوافقون علي خطوطها الأساسية.. الصورة في ظاهرها بائسة.. وتؤكد أن لا أحد يهتم.. ولا أحد عنده استعداد للدخول في مواجهة مع إدارة ترامب الجامحة بسبب القدس.. ولو حتي مواجهة كلامية.
كنا نسخر في الماضي من بيانات الشجب والاستنكار العربية.. ونعدها علامة العجز والوهن.. الآن لم نعد حتي قادرين علي إصدار بيانات الشجب والإدانة والاستنكار.
في مؤتمر باريس حول السلام في الشرق الأوسط الذي قاطعته إسرائيل في مطلع الشهر الماضي أكدت نحو 70 دولة أن خطة ترامب لنقل السفارة إلي القدس تشكل كارثة علي عملية السلام وحل الدولتين.. ووجهت رسالة انتقاد شخصية إلي ترامب.. وأعلن وزراء خارجية الاتحاد الأوروبي معارضتهم الشديدة لآية خطة يعتزمها ترامب لنقل السفارة للقدس.. محذرين من أن هذه الخطوة سوف تصعد من حدة التوتر في العالم العربي.. وقال الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما شيئا من ذلك في خطاب المغادرة.. أما الدول العربية التي شاركت في مؤتمر باريس فلم تصدر عنها كلمة واحدة بشأن.. وقد رجحنا ساعتها أن هذه الدول ربما لا ترغب في استفزز السيد الجديد للبيت الأبيض.. لكن الصمت العربي طال.. بينما زادت استفزازات ترامب أكثر من اللازم.. ووصلت إلي حد تشويه الاسلام والمسلمين وليس المتطرفين والإرهابيين فقط. واتخاذ مواقف عنصرية غير مسبوقة ضد المسلمين المهاجرين مما جعل المجتمع الأمريكي ينتفض ضده.. والقضاء الأمريكي يوقفه عند حده.. بدون أي موقف معلن من الدول العربية والاسلامية.
وهل تستطيع الدول العربية والاسلامية أن تتخذ موقفا في ظل الأوضاع الصعبة الحالية؟!
نعم.. بإمكان جامعة الدول العربية أن تدعو إلي اجتماع عاجل علي مستوي وزراء الخارجية لاتخاذ موقف واحد وهو قطع كافة العلاقات العربية مع إسرائيل إذا تم نقل السفارة إلي القدس.. وتتبع ذلك اجتماع لوزراء خارجية الدول الاعضاء في منظمة التعاون الاسلامي - 75 دولة - لاتخاذ موقف مشابه.. حتي يتأكد ترامب من أن إسرائيل ستخسر كثيرا بسبب قراراته وانحيازاته.. ثم تنعقد قمم عربية واسلامية لانهاء دور أمريكا كوسيط في الصراع العربي ـ الاسرائيلي والعودة إلي مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لتطبيق القرارات الدولية المنسية.
يستطيع العرب والمسلمون والفلسطينيون أن يفعلوا الكثير لو توافرت لهم الإرادة.. ولو توحدت صفوفهم.. وأدركوا أنهم سيؤكلون دولة بعد أخري إذا استمر هذا الشقاق والتنافر بينهم.